التفاسير

< >
عرض

وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً
٦
-النساء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

واعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم اليه بقوله: { وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ } [النساء: 2] بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم، فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم اليهم شرطين: أحدهما: بلوغ النكاح، والثاني: إيناس الرشد، ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم اليهم، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: تصرفات الصبي العاقل المميز باذن الولي صحيحة، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: غير صحيحة، احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية، وذلك لان قوله: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ } يقتضي ان هذا الابتلاء انما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء، وهذا الاختبار انما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار، فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء، يقال: وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فثبت أن قوله: { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم.

أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال: ليس المراد بقوله: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ } الاذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ } فانما أمر بدفع المال اليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال اليه حال الصغر، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر، لأنه لا قائل بالفرق، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي، وأما الذي احتجوا به، فجوابه: أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله، في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد، وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي، ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء، وأيضا: هب أنا سلمنا أنه يدفع اليه شيئا ليبيع أو يشتري، فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء، بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله، فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء، وهذا محتمل والله أعلم.

المسألة الثانية: المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله: { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ } [النور: 59] وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام، وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع.

واعلم أن للبلوغ علامات خمسة: منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والاناث، وهو الاحتلام والسن المخصوص، ونبات الشعر الخشن على العانة، واثنان منها مختصان بالنساء، وهما: الحيض والحبل.

المسألة الثالثة: أما إيناس الرشد فلا بد فيه من تفسير الايناس ومن تفسير الرشد، أما الايناس فقوله: { ءانَسْتُمْ } أي عرفتم وقيل: رأيتم، وأصل الايناس في اللغة الابصار، ومنه قوله: { ءَانَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً } [القصص: 29] وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله، بل لا بد وأن يكون هذا مراداً، وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته، ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين؟ فعند الشافعي رضي الله عنه لا بد منه، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر، والأول أولى، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن أهل اللغة قالوا: الرشد هو إصابة الخير، والمفسد في دينه لا يكون مصيباً للخير. وثانيها: أن الرشد نقيض الغي قال تعالى: { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيّ } [البقرة: 256] والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى: { وَعَصَىٰ ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 121] فجعل العاصي غويا، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين، وثالثها: أنه تعالى قال: { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود: 97] نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين، والله أعلم.

إذا عرفت هذا فنقول: فائدة هذا الاختلاف أن الشافعيرحمه الله يرى الحجر على الفاسق، وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه.

المسألة الرابعة: اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فانه لا يدفع اليه ماله، ثم عند أبي حنيفة لا يدفع اليه ماله حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة، فاذا بلغ ذلك دفع اليه ماله على كل حال، وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فاذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبر في تغير أحوال الانسان لقوله عليه الصلاة والسلام: "مروهم بالصلاة لسبع" فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال، فعندها يدفع اليه ماله، أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يدفع إليه أبدا إلا بايناس الرشد، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.

احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال: لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة، والله تعالى شرط رشداً منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية، فيلزم جواز دفع المال اليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة، فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال: { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا } ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، ثم قال: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ } ويجب أن يكون المراد: فان آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه، فانه ان لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال، وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي، بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال اليه، فاذا كان هذا الشرط مفقوداً بعد خمس وعشرين سنة، وجب أن لا يجوز دفع المال اليه، والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص، لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فاذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي، فثبت أنه لا وجه لقول من يقول: انه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع اليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد.

المسألة الخامسة: إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى: { { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَـٰماً } [النساء: 5] والقياس الجلي أيضا يدل عليه، لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع اليه ماله، وإنما لم يدفع اليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصداً ليوم حاجته، وهذا المعنى قائم في السفه الطارىء، فوجب اعتباره والله أعلم.

المسألة السادسة: قال صاحب «الكشاف»: الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على ان المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة، أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد.

المسألة السابعة: قال صاحب «الكشاف»: قرأ ابن مسعود فان أحستم، بمعنى أحسستم قال:

أحسن به فهن اليه شوس

وقرىء رشدا بفتحتين ورشداً بضمتين.

ثم قال تعالى: { فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰلَهُمْ } والمراد أن عند حصول الشرطين أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال اليهم، وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل، لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل لأنه أمر زائد على العقل.

ثم قال تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا، ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال: { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } قال الواحديرحمه الله : استعف عن الشيء وعف اذا امتنع منه وتركه، وقال صاحب «الكشاف»: استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال: { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } واختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم؟ وفي هذه المسألة أقوال: أحدهما: أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الأول: أن قوله تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً } مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة، وثانيها: أنه قال: { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } فقوله: { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه، بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم، وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله: { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة، وثالثها: قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً } [النساء: 10] وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً } فائدة، وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف، ورابعها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: ان تحت حجري يتيما أآكل من ماله؟ "قال: بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله،" قال: أفأضربه؟ "قال: مما كنت ضاربا منه ولدك،" وخامسها: ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف: سلام عليكم أما بعد: فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبدالله ابن مسعود، وربعها لعثمان، ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم: من كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له: أفأشرب من لبن إبله؟ قال: إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا: يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها، وسادسها: أن الوصي لما تكفل باصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها، فانه يضرب له في تلك الصدقات بسهم، فكذا ههنا، فهذا تقرير هذا القول.

والقول الثاني: أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس. وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها، فأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب، فمباح له إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول أبي العالية وغيره، واحتجوا بأن الله تعالى قال: { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰلَهُمْ } فحكم في الأموال بدفعها اليهم.

والقول الثالث: قال أبو بكر الرازي: الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء، سواء كان غنيا أو فقيرا. واحتج عليه بآيات: منها: قوله تعالى: { وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ } [النساء: 2] إلى قوله: { { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [النساء: 2] ومنها: قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10] ومنها: قوله { { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَـٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ } [النساء: 127] ومنها: قوله: { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ } [البقرة: 188] قال: فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصية في حال الغنى والفقر، وقوله: { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات، وعندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي اليه. أما قوله: { وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ } فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة، والخاص مقدم على العام. وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً } فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم، وهل النزاع الا فيه، وهو الجواب بعينه عن قوله: { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ } أما قوله: { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَـٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ } فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط، والنزاع ليس إلا فيه، فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك، والله أعلم.

ثم قال تعالى: { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰلَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ }.

واعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا، فان الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه: أحدها: أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له، وثانيها: أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله اليه. ثالثها: أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته، ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب" فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه، فثبت بما ذكرنا من الاجماع والمعقول أن الاحوط هو الاشهاد. واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم انه قد دفع المال اليه هل هو مصدق؟ وكذلك لو قال: أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق؟ قال مالك والشافعي: لا يصدق، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصدق، واحتج الشافعي بهذه الآية فان قوله: { فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وأيضا قال الشافعي: القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم، وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع، وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال: لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم: قد دفعت اليك لأنه لم يأتمنه، وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي: قد دفعت مالك اليك أن لا يصدق لأنه لم يأتمنه، ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ انه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه، فيقال له: ان قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه، أما النقض بالقاضي فبعيد، لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا، ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة، وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر، ويلزم التسلسل، ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم، وأما الأب فالفرق ظاهر لوجين: أحدهما: ان شفقته أتم من شفقة الاجنبي، ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي، وأما إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك فنقول: ان كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان، أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره، فههنا يجب أن يقبل قوله، والا لصار ذلك مانعاً للناس من قبول الوصاية، فيقع الخلل في هذا المهم العظيم، فأما الاشهاد عند الرد اليه بعد البلوغ فانه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق، ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة، وهو قوله: { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الايتام والصبيان، وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم.

ثم قال بعده: { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰلَهُمْ فَأَشْهِدُواْ } أشعر ذلك بأن الغرض منه رعاية جانب الصبي؛ لأنه إذا كان لا يتمكن من ادعاء دفع المال اليه إلا عند حضور الشاهد، صار ذلك مانعاً له من الظلم والبخس والنقصان، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن قوله: { فَأَشْهِدُواْ } كما أنه يجب لظاهر الايجاب، فكذلك يجب أن القرائن والمصالح تقتضي الايجاب، ثم قال هذا الرازي، ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد، اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه، فهو بمنزلة الودائع والمضاربات، فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة، فيقال له: أما الفرق بين هذه الصورة وصورة الوديعة فقد ذكره الشافعي رضي الله تعالى عنه، واعتراضك على ذلك الفرق قد سبق إبطاله، وأيضاً فعادتك ترك الالتفات إلى كتاب الله لقياس ركيك تتخيله، ومثل هذا الفقه مسلم لك، ولا يجب المشاركة فيه معك وبالله التوفيق.

ثم قال تعالى: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } قال ابن الانباري والأزهري: يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، فمن الأول قولهم للرجل للتهديد: حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم، ونظير قولنا الحسيب بمعنى المحاسب، قولنا الشريب بمعنى المشارب، ومن الثاني قولهم: حسيبك الله أي كافيك الله.

واعلم أن هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل اليه ماله، وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي.

واعلم أن الباء في قوله: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ } { { وَكَفَىٰ بِرَبّكَ } [الإسراء: 65] في جميع القرآن زائدة، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج و{ حَسِيباً } نصب على الحال أي كفى الله حال كونه محاسبا، وحال كونه كافيا.