التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
عۤسۤقۤ
٢
كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣
لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلعَظِيمُ
٤
تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَٱلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٥
وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
٦
-الشورى

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح معلوم إلا أن في هذا الموضع سؤالان زائدان الأول: أن يقال إن هذه السور السبعة مصدرة بقوله { حـم } فما السبب في اختصاص هذه السورة بمزيد { عسق }؟ الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لا يفصل بين { { كهيعص } [مريم: 1] وههنا يفصل بين { حـم } وبين { عسق } فما السبب فيه؟

واعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيف، وفتح باب المجازفات مما لا سبيل إليه، فالأولى أن يفوض علمها إلى الله، وقرأ ابن عباس وابن مسعود { حـم * عسق }.

أما قوله تعالى: { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ } فالكاف معناه الثل وذا للإشارة إلى شيء سبق ذكره، فيكون المعنى: مثل حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك وعند هذا حصل قولان:

الأول: نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: « لا نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق » وهذا عندي بعيد.

الثاني: أن يكون المعنى: مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الذين من قبلك، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في التوجه إلى الآخرة، والذي يؤكد هذا أنا بينا في سورة { { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأعْلَىٰ } [الأعلى: 1] أو أولها في تقرير التوحيد، وأوسطها في تقرير النبوة، وآخرها في تقرير المعاد، ولما تمم الكلام في تقرير هذه المطالب الثلاثة قال: { { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرٰهِيمَ وَمُوسَىٰ } [الأعلى: 18، 19] يعني أن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه المطالب الثلاثة، فكذلك ههنا يعني مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى كل من قبلك من الأنبياء، والمراد بهذه المماثلة الدعوة إلى هذه المطالب العالية والمباحث المقدسة الإلهية، قال صاحب «الكشاف» ولم يقل أوحي إليك، ولكن قال: { يُوحِي إِلَيْكَ } على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادته، وقرأ ابن كثير { كَذَلِكَ يُوحِى } بفتح الحاء على ما لم يسم فاعله وهي إحدى الروايتين عن أبي عمرو وعن بعضهم { نُوحِي } بالنون، وقرأ الباقون { يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } بكسر الحاء، فإن قيل فعلى القراءة الأولى ما رافع اسم الله تعالى؟ قلنا ما دل عليه بوحي، كأن قائلاً قال من الموحي؟ فقيل الله ونظيره قراءة السلمي { { وَكَـذٰلِكَ زُيّنَ لكَثِيرٍ منَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } [الأنعام: 137] على البناء للمفعول ورفع شركاؤهم، فإن قيل فما رافعه فيمن قرأ { نُوحِي } بالنون؟ قلنا يرفع بالابتداء، والعزيز وما بعده أخبار، أو { ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } صفتان والظرف خبره، ولما ذكر أن هذا الكتاب حصل بالوحي بين أن الموحي من هو فقال إنه هو العزيز الحكيم وقد بينا في أول سورة حم المؤمن أن كونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على ما لا نهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات فيحصل لنا من كونه عزيزاً حكيماً كونه قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات ومن كان كذلك كانت أفعاله وأقواله حكمة وصواباً، وكانت مبرأة عن العيب والعبث، قال مصنف الكتاب قلت في قصيدة:

الحمد لله ذي الآلاء والنعموالفضل والجود والإحسان والكرم
منزّه الفعل عن عيب وعن عبثمقدس الملك عن عزل وعن عدم

والصفة الثالثة قوله { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } وهذا يدل على مطلوبين في غاية الجلال أحدهما: كونه موصوفاً بقدرة كاملة نافذة في جميع أجزاء السمـٰوات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام والتكوين والإبطال والثاني: أنه لما بيّـن بقوله { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أن كل ما في السمـٰوات وما في الأرض فهو ملكه وملكله، وجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في السمـٰوات وفي الأرض، وإلا لزم كونه ملكاً لنفسه، وإذا ثبت أنه ليس في شيء من السمـٰوات امتنع كونه أيضاً في العرش، لأن كل ما سماك فهو سماء فإذا كان العرش موجوداً فوق السمـٰوات كان في الحقيقة سماء، فوجب أن يكون كل ما كان حاصلاً في العرش ملكاً لله وملكاً له، فوجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في العرش، وإن قالوا إنه تعالى قال: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } وكلمة ما لا تتناول من يعقل قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول: أن لفظة ما واردة في حق الله تعالى قال تعالى: { { وَٱلسَّمَاء وَمَا بَنَـٰهَا * وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَـٰهَا } [الشمس: 5، 6] وقال: { { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [الكافرون: 2، 3] والثاني: أن صيغة من وردت في مثل هذه السورة قال تعالى: { { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ إِلاَّ آتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً } [مريم: 93] وكلمة من لا شك أنها واردة في حق الله تعالى فدلّت هذه الآية على أن كل من في السمـٰوات والأرض فهو عبد الله فلو كان الله موجوداً في السمـٰوات والأرض وفي العرش لكان هو من جملة من في السمـٰوات فوجب أن يكون عبد الله، ولما ثبت بهذه الآية أن كل من كان موجوداً في السمـٰوات والعرش فهو عبد لله وجب فيمن تقدست كبرياؤه عن تهمة العبودية أن يكون منزّهاً عن الكون في المكان والجهة والعرش والكرسي.

والصفة الرابعة والخامسة قوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ } ولا يجوز أن يكون المراد بكونه علياً العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده، ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم، لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض، وذلك ضد قوله { { ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] فوجب أن يكون المراد من العلي المتعالي عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات، ومن العظيم العظمة بالقدرة والقهر بالاستعلاء وكمال الإلٰهية.

ثم قال: { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر { تَكَادُ } بالتاء { يَتَفَطَّرْنَ } بالياء والنون، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة { تَكَادُ } بالتاء { يَتَفَطَّرْنَ } بالياء والتاء، وقرأ نافع والكسائي: { يَكَادُ } بالياء { يَتَفَطَّرْنَ } أيضاً بالتاء، قال صاحب «الكشاف»: وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة { تتفطرن } بالتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر، روي في نوادر ابن الإعرابي: الإبل تتشمسن.

المسألة الثانية: في فائدة قوله { مِن فَوْقِهِنَّ } وجوه الأول: روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } قال والمعنى أنها تكاد تتفطر من ثقل الله عليها.

واعلم أن هذا القول سخيف، ويجب القطع ببراءة ابن عباس عنه، ويدل على فساده وجوه: الأول: أن قوله { مِن فَوْقِهِنَّ } لا يفهم منه ممن فوقهن وثانيها: هب أنه يحمل على ذلك، لكن لم قلتم إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الله عليها، ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الملائكة عليها، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد" وثالثها: لم لا يجوز أن يكون المراد تكاد السمٰوات تنشق وتنفطر من هيبة من هو فوقها فوقية بالإلٰهية والقهر والقدرة؟، فثبت بهذه الوجوه أن القول الذي ذكروه في غاية الفساد والركاكة والوجه الثاني: في تأويل الآية ما ذكره صاحب «الكشاف»: وهو أن كلمة الكفر إنما جاءت من الذين تحت السمٰوات، وكان القياس أن يقال: يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك فقلب فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن، ودع الجهة التي تحتهن، ونظيره في المبالغة قوله تعالى؛ { { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ ٱلْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ } [الحج: 19، 20] فجعل مؤثراً في أجزائه الباطنة الوجه الثالث: في تأويل الآية أن يقال { مِن فَوْقِهِنَّ } أي من فوق الأرضين، لأنه تعالى قال قبل هذه الآية { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ثم قال: { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أي من فوق الأرضين والوجه الرابع: في التأويل أن يقال معنى { مِن فَوْقِهِنَّ } أي من الجهة التي حصلت هذه السمٰوات فيها، وتلك الجهة هي فوق، فقوله { مِن فَوْقِهِنَّ } أي من الجهة الفوقانية التي هن فيها.

المسألة الثالثة: ااختلفوا في أن هذه الهيئة لم حصلت؟ وفيه قولان الأول: أنه تعالى لما بيّن أن الموحي لهذا الكتاب هو الله العزيز الحكيم، بيّن وصف جلاله وكبريائه، فقال: { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أي من هيبته وجلالته والقول الثاني: أن السبب في إثباتهم الولد لله لقوله { { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [مريم: 90]، وههنا السبب فيه إثباتهم الشركاء لله، لقوله بعد هذه الآية { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } والصحيح هو الأول، ثم قال: { وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ }.

واعلم أن مخلوقات الله تعالى نوعان: عالم الجسمانيات وأعظمها السمٰوات، وعالم الروحانيات وأعظمها الملائكة، والله تعالى يقرر كمال عظمته لأجل نفاذ قدرته وهيبته في الجسمانيات، ثم يردفه بنفاذ قدرته واستيلاء هيبته على الروحانيات، والدليل عليه أنه تعالى قال في سورة { { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ } [النبأ: 1] لما أراد تقرير العظمة والكبرياء بدأ بذكر الجسمانيات، فقال: { { رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } [النبأ: 37] ثم انتقل إلى ذكر عالم الروحانيات، فقال { { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } [النبأ: 38] فكذلك القول في هذه الآية بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات، فقال: { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } ثم انتقل إلى ذكر الروحانيات، فقال: { وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } فهذا ترتيب شريف وبيان باهر.

واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام: مؤثر لا يقبل الأثر، وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الأقسام، ومتأثر لا يؤثر، وهو القابل وهو الجسم وهو أخس الأقسام، وموجود يقبل الأثر من القسم الأول، ويؤثر في القسم الثاني وهو الجواهر الروحانيات المقدسة، وهو المرتبة المتوسطة، إذا عرفت هذا فنقول الجواهر الروحانية لها تعلقان: تعلق بعالم الجلال والكبرياء، وهو تعلق القبول، فإن الجلايا القدسية والأضواء الصمدية إذا أشرقت على الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهياتها، ثم إن الجواهر الروحانية إذا استفادت تلك القوى الروحانية، قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيات، وإذا كان كذلك فلها وجهان: وجه إلى جانب الكبرياء وحضرة الجلال، ووجه إلى عالم الأجسام والوجه الأول أشرف من الثاني. إذا عرفت هذا فنقول:

قوله تعالى: { يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الجلال والكبرياء، وقوله { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } إشاارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام، فما أحسن هذه اللطائف وما أشرفها وما أشد تأثيرها في جذب الأرواح من حضيض الخلق إلى أوج معرفة الحق، إذا عرفت هذا فنقول: أما الجهة الأولى وهي الجهة العلوية المقدسة، فقد اشتملت على أمرين: أحدهما: التسبيح، وثانيهما: التحميد، لأن قوله { يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } يفيد هذين الأمرين، والتسبيح مقدم على التحميد، لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي، والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مفيضاً لكل الخيرات وكونه منزّهاً في ذاته عما لا ينبغي، مقدم بالرتبة على كونه فياضاً للخيرات والسعادات، لأن وجود الشيء مقدم على إيجاد غيره، وحصوله في نفسه مقدم على تأثيره في حصول غيره، فلهذا السبب كان التسبيح مقدماً على التحميد، ولهذا قال: { يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ }.

وأما الجهة الثانية: وهي الجهة التي لتلك الأرواح إلى عالم الجسمانيات، فالإشارة إليها بقوله { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } والمراد منه تأثيراتها في نظم أحوال هذا العالم وحصول الطريق الأصوب الأصلح فيها، فهذه ملامح من المباحث العالية الإلٰهية مدرجة في هذه الآيات المقدسة، ولنرجع إلى ما يليق بعلم التفسير، فإن قيل كيف يصح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار، وقد قال تعالى: { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلـٰئِكَةِ } فكيف يكونون لاعنين ومستغفرين لهم؟، قلنا الجواب: عنه من وجوه:

الأول: أن قوله { لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } لا يفيد العموم، لأنه يصح أن يقال إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض، ولو كان قوله { لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } صريحاً في العموم لما صح ذلك التقسيم الثاني: هب أن هذا النص يفيد العموم إلا أنه تعالى حكى عن الملائكة في سورة حٰم المؤمن فقال: { { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } [غافر: 7] الثالث: يجوز أن يكون المراد من الاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } إلى أن قال: { { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [فاطر: 41] الرابع: يجوز أن يقال إنهم يستغفرون لكل من في الأرض، أما في حق الكفار فبواسطة طلب الإيمان لهم، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم، فإنا نقول اللّهم اهد الكافرين وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر، وهذا في الحقيقة استغفار.

واعلم أن قوله { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم، ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض، وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرءون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له ألبتة أفضل ممن له ذنب وأيضاً فقوله { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض، وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم.

ولما حكى الله تعالى عن الملائكة التسبيح والتحميد والاستغفار قال: { أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة للحق سبحانه وتعالى وبيانه ممن وجوه الأول: أن إقدام الملائكة على طلب المغفرة للبشر من الله تعالى إنما كان لأن الله تعالى خلق في قلوبهم داعية لطلب تلك المغفرة، ولولا أن الله تعالى خلق في قلوبهم تلك الدواعي وإلا لما أقدموا على ذلك الطلب وإذا كان كذلك كان الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله سبحانه وتعالى الثاني: أن الملائكة قالوا في أول الأمر { { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ } [البقرة: 30] ثم في آخر الأمر صاروا يستغفرون لمن في الأرض، وأما رحمة الحق وإحسانه فقد كان موجوداً في الأولى والآخر فثبت أن الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله تعالى الثالث: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستغفرون لمن في الأرض ولم يحك عنهم أنهم يطلبون الرحمة لمن في الأرض فقال: { أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } يعني أنه يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة الكاملة التامة.

ثم قال تعالى: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي جعلوا له شركاء وأنداداً { ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوته منها شيء وهو محاسبهم عليها لا رقيب عليهم إلا هو وحده وما أنت يا محمد بمفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان، إنما أنت منذر فحسب.