التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ
٣٢
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٣
وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٣٤
ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ
٣٥
فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٣٦
وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣٧
-الجاثية

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء والساعة رفعاً ونصباً قال الزجاج من نصب عطف على الوعد ومن رفع فعلى معنى وقيل: الساعة لا ريب فيها قال الأخفش الرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب، إذا جاء بعد خبر إن لأنه كلام مستقل بنفسه بعد مجيء الكلام الأول بتمامه.

المسألة الثانية: حكى الله تعالى عن الكفار أنهم إذا قيل إن وعد الله بالثواب والعقاب حق وإن الساعة آتية لا ريب فيها قالوا ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين.

أقول الأغلب على الظن أن القوم كانوا في هذه المسألة على قولين منهم من كان قاطعاً بنفي البعث والقيامة، وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله { { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } [الجاثية: 24] ومنهم من كان شاكاً متحيراً فيه، لأنهم لكثرة ما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحته صاروا شاكين فيه وهم الذين أرادهم الله بهذه الآية، والذي يدل عليه أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين، ثم أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول.

ثم قال تعالى: { وَبَدَا لَهُمْ } أي في الآخرة { سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } وقد كانوا من قبل يعدونها حسنات فصار ذلك أول خسرانهم { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } وهذا كالدليل على أن هذه الفرقة لما قالوا { إن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } إنما ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية، وعلى هذا الوجه فهذا الفريق شر من الفريق الأول، لأن الأولين كانوا منكرين وما كانوا مستهزئين، وهذا الفريق ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء.

ثم قال تعالى: { وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } وفي تفسير هذا النسيان وجهان الأول: نترككم في العذاب كما تركتم الطاعة التي هي الزاد ليوم المعاد الثاني: نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم ولم تلتفتوا إليه بل جعلتموه كالشيء الذي يطرح نسياً منسياً، فجمع الله تعالى عليهم من وجوه العذاب الشديد ثلاثة أشياء فأولها: قطع رحمة الله تعالى عنهم بالكلية وثانيها: أنه يصير مأواهم النار وثالثها: أن لا يحصل لهم أجر من الأعوان والأنصار، ثم بيّن تعالى أنه يقال لهم إنكم إنما صرتم مستحقين لهذه الوجوه الثلاثة من العذاب الشديد؛ لأجل أنكم أتيتم بثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة فأولها: الإصرار على إنكار الدين الحق وثانيها: الاستهزاء به والسخرية منه، وهذان الوجهان داخلان تحت قوله تعالى: { ذٰلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً } وثالثها: الاستغراق في حب الدنيا والإعراض بالكلية عن الآخرة، وهو المراد من قوله تعالى: { وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا }.

ثم قال تعالى: { فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا } قرأ حمزة والكسائي { يُخْرَجُونَ } بفتح الياء، والباقون بضمها { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم، أي يرضوه، ولما تم الكلام في هذه المباحث الشريفة الروحانية ختم السورة بتحميد الله تعالى، فقال: { فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي فاحمدوا الله الذي هو خالق السموات والأرض، بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه الربوبية توجب الحمد والثناء على كل أحد من المخلوقين والمربوبين.

ثم قال تعالى: { وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَاء فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وهذا مشعر بأمرين أحدهما: أن التكبير لا بد وأن يكون بعد التحميد، والإشارة إلى أن الحامدين إذا حمدوه وجب أن يعرفوا أنه أعلى وأكبر من أن يكون الحمد الذي ذكروه لائقاً بإنعامه، بل هو أكبر من حمد الحامدين، وأياديه أعلى وأجل من شكر الشاكرين والثاني: أن هذا الكبرياء له لا لغيره، لأن واجب الوجود لذاته ليس إلا هو.

ثم قال تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } يعني أنه لكمال قدرته يقدر على خلق أي شيء أراد، ولكمال حكمته يخص كل نوع من مخلوقاته بآثار الحكمة والرحمة والفضل والكرم، وقوله { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } يفيد الحصر، فهذا يفيد أن الكامل في القدرة وفي الحكمة وفي الرحمة ليس إلا هو، وذلك يدل على أنه لا إلٰه للخلق إلا هو، ولا محسن ولا متفضل إلا هو.

قال مولانا رضي الله عنه: تمّ تفسير هذه السورة يوم الجمعة بعد الصلاة الخامس عشر من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة، والحمدلله حمداً دائماً طيباً مباركاً مخلداً مؤبداً، كما يليق بعلو شأنه وباهر برهانه وعظيم إحسانه، والصلاة على الأرواح الطاهرة المقدسة من ساكني أعالي السمٰوات، وتخوم الأرضين، من الملائكة والأنبياء والأولياء والموحدين، خصوصاً على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.