التفاسير

< >
عرض

فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٣٥
-الأحقاف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

واعلم أنه تعالى لما قرر المطالب الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد، وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوجسون صدره، فقال تعالى: { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } أي أولو الجد والصبر والثبات، وفي الآية قولان.

الأول: أن تكون كلمة { مِنَ } للتبعيض ويراد بأولو العزم بعض الأنبياء قيل هم نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم على النار وذبح الولد، وإسحاق على الذبح، ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضر وموسى قال له قومه { { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 61، 62] وداود بكى على زلته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال: إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها، وقال الله تعالى في آدم { { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115] وفي يونس { { وَلاَ تَكُن كَصَـٰحِبِ ٱلْحُوتِ } [القلم: 48].

والقول الثاني: أن كل الرسل أولو عزم ولم يبعث الله رسولاً إلا كان ذا عزم وحزم، ورأي وكمال وعقل، ولفظة من في قوله { مَّنَ ٱلرُّسُلِ } تبيين لا تبعيض كما يقال كسيته من الخز وكأنه قيل اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم، ووصفهم بالعزم لصبرهم وثباتهم.

ثم قال: { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } ومفعول الاستعجال محذوف، والتقدير لا تستعجل لهم بالعذاب، قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه بعض الضجر، وأحب أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه فأمر بالصبر وترك الاستعجال، ثم أخبر أن ذلك العذاب منهم قريب، وأنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وعند نزول ذلك العذاب بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعة من نهار، والمعنى أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ، كأنه ساعة من النهار، أو كأن لم يكن لهول ما عاينوا، أو لأن الشيء إذا مضى صار كأنه لم يكن، وإن كان طويلاً قال الشاعر:

كأن شيئاً لم يكن إذا مضى كأن شيئاً لم يزل إذا أنى

واعلم أنه تم الكلام ههنا، ثم قال تعالى: { بلاغ } أي هذا بلاغ، ونظيره قوله تعالى: { { هَـٰذَا بَلَـٰغٌ لّلنَّاسِ } [إبراهيم: 52] أي هذا الذي وعظتم به فيه كفاية في الموعظة أو هذا تبليغ من الرسل، فهل يهلك إلا الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه، والله أعلم.

قال المصنفرحمه الله تعالى: تم تفسير هذه السورة يوم الأربعاء العشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.