التفاسير

< >
عرض

هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٢٥
-الفتح

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وقوله تعالى: { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ }.

إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم لأنهم كفروا وصدوا وأحصروا، وكل ذلك يقتضي قتالهم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا، ولم يبق بينهما خلاف واصطلحوا، ولم يبق بينهما نزاع، بل الاختلاف باق والنزاع مستمر، لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوا فازدادوا كفراً وعداوة، وإنما ذلك للرجال المؤمنين والنساء المؤمنات، وقوله { وَٱلْهَدْىَ } منصوب على العطف على كم في { صَدُّوكُمْ } ويجوز الجر عطفاً على المسجد، أي وعن الهدي. و { مَعْكُوفاً } حال و { أَن يَبْلُغَ } تقديره على أن يبلغ، ويحتمل أن يقال { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } رفع، تقديره معكوفاً بلوغه محله، كما يقال: رأيت زيداً شديداً بأسه، ومعكوفاً، أي ممنوعاً، ولا يحتاج إلى تقدير عن على هذا الوجه.

وقوله تعالى: { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَـٰتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ }.

وصف الرجال والنساء، يعني لولا رجال ونساء يؤمنون غير معلومين، وقوله تعالى: { أَن تَطَئُوهُمْ } بدل اشتمال، كأنه قال: رجال غير معلومي الوطء فتصيبكم منهم معرة عيب أو إثم، وذلك لأنكم ربما تقتلونهم فتلزمكم الكفارة وهي دليل الإثم، أو يعيبكم الكفار بأنهم فعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم، وقوله تعالى: { بِغَيْرِ عِلْمٍ } قال الزمخشري: هو متعلق بقوله { أَن تَطَئُوهُمْ } يعني تطئوهم بغير علم، وجاز أن يكون بدلاً عن الضمير المنصوب في قوله { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } ولقائل أن يقول: يكون هذا تكراراً، لأن على قولنا هو بدل من الضمير يكون التقدير: لم تعلموا أن تطئوهم بغير علم، فيلزم تكرار بغير علم الحصول بقوله { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } فالأولى أن يقال { بِغَيْرِ عِلْمٍ } هو في موضعه تقديره: لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم، من يعركم ويعيب عليكم، يعني إن وطأتموهم غير عالمين يصبكم مسبة الكفار { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بجهل لا يعلمون أنكم معذورون فيه، أو نقول تقديره: لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم، أي فتقتلوهم بغير علم، أو تؤذوهم بغير علم، فيكون الوطء سبب القتل، والوطء غير معلوم لكم، والقتل الذي هو بسبب المعرة وهو الوطء الذي يحصل بغير علم. أو نقول: المعرة قسمان أحدهما: ما يحصل من القتل العمد ممن هو غير العالم بحال المحل والثاني: ما يحصل من القتل خطأ، وهو غير عدم العلم، فقال: تصيبكم منهم معرة غير معلومة، لا التي تكون عن العلم وجواب: لولا محذوف تقديره: لولا ذلك لما كف أيديكم عنهم، هذا ما قاله الزمخشري وهو حسن، ويحتمل أن يقال جوابه: ما يدل عليه قوله تعالى: { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } يعني قد استحقوا لأن لا يهملوا، ولولا رجال مؤمنون لوقع ما استحقوه، كما يقول القائل: هو سارق ولولا فلان لقطعت يده، وذلك لأن لولا لا تستعمل إلا لامتناع الشيء لوجود غيره، وامتناع الشيء لا يكون إلا إذا وجد المقتضي له فمنعه الغير فذكر الله تعالى أولاً المقتضي التام البالغ وهو الكفر والصد والمنع، وذكر ما امتنع لأجله مقتضاه وهو وجود الرجال المؤمنين.

وقوله تعالى: { لّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } فيه أبحاث:

الأول: في الفعل الذي يستدعي اللام الذي بسببه يكون الإدخال وفيه وجوه أحدها: أن يقال هو قوله { كَفَّ أَيْدِيكُم عَنْهُمْ } ليدخل، لا يقال بأنك ذكرت أن المانع وجود رجال مؤمنين فيكون كأنه قال: كف أيديكم لئلا تطئوا فكيف يكون لشيء آخر؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن نقول كف أيديكم لئلا تطئوا لتدخلوا كما يقال أطعمته ليشبع ليغفر الله لي أي الإطعام للشابع كان ليغفر الثاني: هو أنا بينا أن لولا جوابه ما دل عليه قوله { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فيكون كأنه قال هم الذين كفروا واستحقوا التعجل في إهلاكهم، ولولا رجال لعجل بهم ولكن كف أيديكم ليدخل ثانيها: أن يقال فعل ما فعل ليدخل لأن هناك أفعالاً من الألطاف والهداية وغيرهما، وقوله { لّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ } ليؤمن منهم من علم الله تعالى أنه يؤمن في تلك السنة أو ليخرج من مكة ويهاجر فيدخلهم في رحمته وقوله تعالى: { لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي لو تميزوا، والضمير يحتمل أن يقال هو ضمير الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات، فإن قيل كيف يصح هذا وقد قلتم بأن جواب لولا محذوف وهو قوله لما كف أو لعجل ولو كان { لَوْ تَزَيَّلُواْ } راجعاً إلى الرجال لكان لعذبنا جواب لولا؟ نقول وقد قال به الزمخشري فقال: { لَوْ تَزَيَّلُواْ } يتضمن ذكر لولا فيحتمل أن يكون لعذبنا جواب لولا، ويحتمل أن يقال هو ضمير من يشاء، كأنه قال ليدخل من يشاء في رحمته لو تزيلوا هم وتميزوا وآمنوا لعذبنا الذين كتب الله عليهم أنهم لا يؤمنون، وفيه أبحاث:

البحث الأول: وهو على تقدير نفرضه فالكلام يفيد أن العذاب الأليم اندفع عنهم، إما بسبب عدم التزييل، أو بسبب وجود الرجال وعلم تقدير وجود الرجال والعذاب الأليم لا يندفع عن الكافر، نقول المراد عذاباً عاجلاً بأيديكم يبتدىء بالجنس إذ كانوا غير مقرنين ولا منقلبين إليهم فيظهرون ويقتدرون يكون أليماً.

البحث الثاني: ما الحكمة في ذكر المؤمنين والمؤمنات مع أن المؤنث يدخل في ذكر المذكر عند الاجتماع؟ قلنا الجواب عنه من وجهين أحدهما: ما تقدم يعني أن الموضع موضع وهم اختصاص الرجال بالحكم لأن قوله { تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ } معناه تهلكوهم والمراد لا تقاتل ولا تقتل فكان المانع وهو وجود الرجال المؤمنين فقال: والنساء المؤمنات أيضاً لأن تخريب بيوتهن ويتم أولادهن بسبب رجالهن وطأة شديدة وثانيهما: أن في محل الشفقة تعد المواضع لترقيق القلب، يقال لمن يعذب شخصاً لا تعذبه وارحم ذله وفقره وضعفه، ويقال أولاده وصغاره وأهله الضعفاء العاجزين، فكذلك ههنا قال: { لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَـٰتٌ } لترقيق قلوب المؤمنات ورضاهم بما جرى من الكف بعد الظفر.