التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
٤
-الفتح

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

لما قال تعالى: { { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ } [الفتح: 3] بين وجه النصر، وذلك لأن الله تعالى قد ينصر رسله بصيحة يهلك بها أعداءهم، أو رجفة تحكم عليهم بالفناء، أو جند يرسله من السماء، أو نصر وقوة وثبات قلب يرزق المؤمنين به، ليكون لهم بذلك الثواب الجزيل فقال: { هُوَ ٱلَّذِي أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ } أي تحقيقاً للنصر، وفي السكينة وجوه أحدها: هو السكون الثاني: الوقار لله ولرسول الله وهو من السكون الثالث: اليقين والكل من السكون وفيه مسائل:

المسألة الأولى: السكينة هنا غير السكينة في قوله تعالى: { { إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سكينةٌ من ربِّكمْ } [البقرة: 248] في قول أكثر المفسرين ويحتمل هي تلك المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلوب.

المسألة الثانية: السكينة المنزّلة عليهم هي سبب ذكرهم الله كما قال تعالى: { { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد: 28].

المسألة الثالثة: قال الله تعالى في حق الكافرين { { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ } [الأحزاب: 26] بلفظ القذف المزعج وقال في حق المؤمنين { أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ } بلفظ الإنزال المثبت، وفيه معنى حكمي وهو أن من علم شيئاً من قبل وتذكره واستدام تذكره فإذا وقع لا يتغير، ومن كان غافلاً عن شيء فيقع دفعة يرجف فؤاده، ألا ترى أن من أخبر بوقوع صيحة وقيل له لا تنزعج منها فوقعت الصيحة لا يرجف، ومن لم يخبر به و أخبر وغفل عنه يرتجف إذا وقعت، فكذلك الكافر أتاه الله من حيث لا يحتسب وقذف في قلبه فارتجف، والمؤمن أتاه من حيث كان يذكره فسكن، وقوله تعالى: { لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ } فيه وجوه أحدها: أمرهم بتكاليف شيئاً بعد شيء فآمنوا بكل واحد منها، مثلاً أمروا بالتوحيد فآمنوا وأطاعوا، ثم أمروا بالقتال والحج فآمنوا وأطاعوا، فازدادوا إيماناً مع إيمانهم ثانيها: أنزل السكينة عليهم فصبروا فرأوا عين اليقين بما علموا من النصر علم اليقين إيماناً بالغيب فازدادوا إيماناً مستفاداً من الشهادة مع إيمانهم المستفاد من الغيب ثالثها: ازدادوا بالفروع مع إيمانهم بالأصول، فإنهم آمنوا بأن محمداً رسول الله وأن الله واحد والحشر كائن وآمنوا بأن كل ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم صدق وكل ما يأمر الله تعالى به واجب رابعها: ازدادوا إيماناً استدلالياً مع إيمانهم الفطري، وعلى هذا الوجه نبين لطيفة وهي أن الله تعالى قال في حق الكافر { { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [آل عمران: 178] ولم يقل مع كفرهم لأن كفرهم عنادي وليس في الوجود كفر فطري لينضم إليه الكفر العنادي بل الكفر ليس إلا عنادياً وكذلك الكفر بالفروع لا يقال انضم إلى الكفر بالأصول لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد فقال: { لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ } وقوله { وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } فكان قادراً على إهلاك عدوه بجنوده بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب، وفي جنود السمٰوات والأرض وجوه أحدها: ملائكة السمٰوات والأرض ثانيها: من في السمٰوات من الملائكة ومن في الأرض من الحيوانات والجن وثالثها: الأسباب السماوية والأرضية حتى يكون سقوط كسف من السماء والخسف من جنوده، وقوله تعالى: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } لما قال: { وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } وعددهم غير محصور، أثبت العلم إشارة إلى أنه { { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [سبأ: 3] وأيضاً لما ذكر أمر القلوب بقوله { هُوَ ٱلَّذِي أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } والإيمان من عمل القلوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يعلم السر وأخفى، وقوله { حَكِيماً } بعد قوله { عَلِيماً } إشارة إلى أنه يفعل على وفق العلم فإن الحكيم من يعمل شيئاً متقناً ويعلمه، فإن من يقع منه صنع عجيب اتفاقاً لا يقال له حكيم ومن يعلم ويعمل على خلاف العلم لا يقال له حكيم.