التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١٩
-المائدة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

ثم قال تعالى: { قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أجمعوا على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة، والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة، والدليل على أن المراد ما ذكرنا: أن صدق الكفار في القيامة لا ينفعهم، ألا ترى أن إبليس قال: { إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } [إبراهيم: 22] فلم ينفعه هذا الصدق، وهذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله { { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ } [المائدة: 117].

المسألة الثانية: قرأ جمهور القرّاء { يَوْمٍ } بالرفع، وقرأ نافع بالنصب، واختاره أبو عبيدة. فمن قرأ بالرفع، قال الزجاج: التقدير هذا اليوم يوم منفعة الصادقين، وأما النصب ففيه وجوه: الأول: على أنه ظرف لقال والتقدير: قال الله هذا القول لعيسى يوم ينفع. الثاني: أن يكون التقدير: هذا الصدق واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويجوز أن تجعل ظروف الزمان أخباراً عن الأحداث بهذا التأويل كقولك: القتال يوم السبت، والحج يوم عرفة، أي واقع في ذلك اليوم، والثالث: قال الفرّاء: { يَوْمٍ } أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في يومئذ. قال البصريون هذا خطأ لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى المبنى كقول النابغة.

على حين عاتبت المشيب على الصبا

بنى (حين) لإضافته إلى المبنيّ، وهو الفعل الماضي، وكذلك قوله { { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } [الإنفطار: 19] بني لإضافته إلى (لا) وهي مبنية، أما هنا فالإضافة إلى معرب لأن ينفع فعل مستقبل، والفعل المستقبل معرب فالإضافة إليه لا توجب البناء والله أعلم.

ثم قال تعالى: { لَهُمْ جَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }.

اعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة، شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب، وحقيقة الثواب: أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم. فقوله { لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم، وقوله { خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة، فإنه أينما ذكر الثواب قال: { خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } وأينما ذكر عقاب الفساق من أهل الايمان ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأبيد، وأما قوله تعالى: { رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } فهو إشارة إلى التعظيم. هذا ظاهر قول المتكلمين، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى، فتحت قوله { رّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها، وقوله { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ } الجمهور على أن قوله { ذٰلِكَ } عائد إلى جملة ما تقدم من قوله { لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي } إلى قوله { وَرَضُواْ عَنْهُ } وعندي أنه يحتمل أن يكون ذلك مختصاً بقوله { رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } فإنه ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما، وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهريّ، ولكن كل ميسٌر لما خلق له.