التفاسير

< >
عرض

يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَٰسِرِينَ
٢١
-المائدة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

فيه مسائل:

المسألة الأولى: روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال له الله تعالى: انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس، وهو ميراث لذريتك. وقيل: لما خرج قوم موسى عليه السلام من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشام، وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد، ثم بعث موسى عليه السلام اثنى عشر نقيباً من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي، فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساماً عظيمة هائلة. قال المفسرون: لما بعث موسى عليه السلام النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك، فنثرهم بين يديه وقال متعجباً للملك: هؤلاء يريدون قتالنا، فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم وأخبروه بما شاهدتم، ثم انصرف أولئك النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة، فأمرهم أن يكتموا ما عاهدوه فلم يقبلوا قوله، إلا رجلان منهم، وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، فإنهما سهلا الأمر وقالا: هي بلاد طيبة كثيرة النعم، والأقوام وإن كانت أجسادهم عظيمة إلا أن قلوبهم ضعيفة، وأما العشرة الباقية فقد أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم، فقالوا لموسى عليه السلام { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ } [المائدة: 24] فدعا موسى عليه السلام عليهم فعاقبهم الله تعالى بأن أبقاهم في التيه أربعين سنة. قالوا: وكانت مدة غيبة النقباء للتجسس أربعين يوماً فعوقبوا بالتيه أربعين سنة، ومات أولئك العصاة في التيه، وأهلك النقباء العشرة في التيه بعقوبات غليظة. ومن الناس من قال: إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا أيضاً في التيه: ومنهم من قال: إن موسى عليه السلام بقي وخرج معه يوشع وكالب وقاتلوا الجبارين وغلبوهم ودخلوا تلك البلاد، فهذه هي القصة والله أعلم بكيفية الأمور.

المسألة الثانية: الأرض المقدسة هي الأرض المطهرة طهرت من الآفات. قال المفسرون: طهرت من الشرك وجعلت مسكناً وقراراً للأنبياء، وهذا فيه نظر، لأن تلك الأرض لما قال موسى عليه الصلاة والسلام { ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ } ما كانت مقدسة عن الشرك، وما كانت مقراً للأنبياء، ويمكن أن يجاب بأنها كانت كذلك فيما قبل.

المسألة الثالثة: اختلفوا في تلك الأرض، فقال عكرمة والسدي وابن زيد: هي أريحا وقال الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقيل الطور.

المسألة الرابعة: في قوله { كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } وجوه: أحدها: كتب في اللوح المحفوظ أنها لكم وثانيها: وهبها الله لكم، وثالثها: أمركم بدخولها.

فإن قيل: لم قال { كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } ثم قال { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } [المائدة: 26].

والجواب: قال ابن عباس: كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. وقيل: اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد هو الخصوص، فصار كأنه مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم. وقيل: إن الوعد بقوله { كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } مشروط بقيد الطاعة، فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط، وقيل: إنها محرمة عليهم أربعين سنة، فلما مضى الأربعون حصل ما كتب.

المسألة الخامسة: في قوله { كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } فائدة عظيمة، وهي أن القوم وإن كانوا جبارين إلا أن الله تعالى لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم، فإن كانوا مؤمنين مقرين بصدق موسى عليه السلام علموا قطعاً أن الله ينصرهم عليهم ويسلطهم عليهم فلا بدّ وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع، فهذه هي الفائدة من هذه الكلمة.

ثم قال: { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِكُمْ } وفيه وجهان: الأول: لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام، وذلك لأنه عليه السلام لما أخبر أن الله تعالى جعل تلك الأرض لهم كان هذا وعداً بأن الله تعالى ينصرهم عليهم، فلو لم يقطعوا بهذه النصرة صاروا شاكين في صدق موسى عليه السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوّة.

والوجه الثاني: المراد لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى الأرض التي خرجتم عنها. يروى أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مصر. وقوله { فَتَنقَلِبُواْ خَـٰسِرِينَ } فيه وجوه: أحدها: خاسرين في الآخرة فإنه يفوتكم الثواب ويلحقكم العقاب، وثانيها: ترجعون إلى الذل، وثالثها: تموتون في التيه ولا تصلون إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة.