التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٣٣
-المائدة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد في الأرض أتبعه ببيان أن الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو، فإن بعض ما يكون فساداً في الأرض لا يوجب قتل فقال { إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: في أول الآية سؤال، وهو أن المحاربة مع الله تعالى غير ممكنة فيجب حمله على المحاربة مع أولياء الله، والمحاربة مع الرسل ممكنة فلفظة المحاربة إذا نسبت إلى الله تعالى كان مجازاً، لأن المراد منه المحاربة مع أولياء الله، وإذا نسبت إلى الرسول كانت حقيقة، فلفظ يحاربون في قوله { إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } يلزم أن يكون محمولاً على المجاز والحقيقة معاً، وذلك ممتنع، فهذا تقرير السؤال.

وجوابه من وجهين: الأول: أنا نحمل المحاربة على مخالفة الأمر والتكليف، والتقدير: إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ويسعون في الأرض فساداً كذا وكذا، والثاني: تقدير الكلام إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله تعالى وأولياء رسوله كذا وكذا. وفي الخبر أن الله تعالى قال: "من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة" .

المسألة الثانية: من الناس من قال: هذا الوعيد مختص بالكفار، ومنهم من قال: إنه في فساق المؤمنين، أما الأولون فقد ذكروا وجوها: الأول: أنها نزلت في قوم من عرينة نزلوا المدينة مظهرين للإسلام، فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا، فلما وصلوا إلى ذلك الموضع وشربوا وصحوا قتلوا الرعاة وساقوا الإبل وارتدوا، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في أثرهم وأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركوا هناك حتى ماتوا، فنزلت هذه الآية نسخاً لما فعله الرسول، فصارت تلك السنة منسوخة بهذا القرآن، وعند الشافعيرحمه الله لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقاً للسنة الناسخة، والثاني: أن الآية نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي، وكان قد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. الثالث: أن هذه الآية في هؤلاء الذين حكى الله تعالى عنهم من بني إسرائيل أنهم بعد أن غلظ الله عليهم عقاب القتل العمد العدوان فهم مسرفون في القتل مفسدون في الأرض، فمن أتى منهم بالقتل والفساد في الأرض فجزاؤهم كذا وكذا.

والوجه الرابع: أن هذه الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء، قالوا: والذي يدل على أنه لا يجوز حمل الآية على المرتدين وجوه: أحدها: أن قطع المرتد لا يتوقف على المحاربة ولا على إظهار الفساد في دار الإسلام، والآية تقتضي ذلك. وثانيها: لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد ولا على النفي، والآية تقتضي ذلك. وثالثها: أن الآية تقتضي سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة وهو قوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } [المائدة: 34] والمرتد يسقط حده بالتوبة قبل القدرة وبعدها، فدل ذلك على أن الآية لا تعلق لها بالمرتدين. ورابعها: أن الصلب غير مشروع في حق المرتد وهو مشروع هٰهنا، فوجب أن لا تكون الآية مختصة بالمرتد. وخامسها: أن قوله { ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأَْرْضِ فَسَاداً } يتناول كل من كان موصوفاً بهذه الصفة، سواء كان كافراً أو مسلماً، أقصى ما في الباب أن يقال الآية نزلت في الكفار لكنك تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

المسألة الثالثة: المحاربون المذكورون في هذه الآية هم القوم الذين يجتمعون وليهم منعة ممن أرادهم بسبب أنهم يحمي بعضهم بعضاً ويقصدون المسلمين في أرواحهم ودمائهم، وإنما اعتبرنا القوة والشوكة لأن قاطع الطريق إنما يمتاز عن السارق بهذا القيد، واتفقوا على أن هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كانوا قطاع الطريق، فأما لو حصلت في نفس البلدة فقال الشافعيرحمه الله : إنه يكون أيضاً ساعياً في الأرض بالفساد ويقام عليه هذا الحد. قال: وأراهم في المصر إن لم يكونوا أعظم ذنباً فلا أقل من المساواة، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا حصل ذلك في المصر فإنه لا يقام عليه الحد. وجه قول الشافعيرحمه الله النص والقياس، أما النص فعموم قوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأَرْضِ فَسَاداً } ومعلوم أنه إذا حصل هذا المعنى في البلد كان لا محالة داخلاً تحت عموم هذا النص، وأما القياس فهو أن هذا حد فلا يختلف في المصر وغير المصر كسائر الحدود. وجه قول أبي حنيفةرحمه الله أن الداخل في المصر يلحقه الغوث في الغالب فلا يتمكن من المقاتلة فصار في حكم السارق.

المسألة الرابعة: قوله { أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـٰفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلاْرْضِ } للعلماء في لفظ { أَوْ } في هذه الآية قولان: الأول: أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد، والمعنى أن الإمام إن شاء قتل وإن شاء صلب، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإن شاء نفى، أي واحد من هذه الأقسام شاء فعل. وقال ابن عباس في رواية عطاء: كلمة { أَوْ } هٰهنا ليست للتخيير، بل هي لبيان أن الأحكام تختلف باختلاف الجنايات، فمن اقتصر على القتل قتل، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف. ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال نفي من الأرض، وهذا قول الأكثرين من العلماء، وهو مذهب الشافعيرحمه الله ، والذي يدل على ضعف القول الأول وجهان: الأول: أنه لو كان المراد من الآية التخيير لوجب أن يمكن الإمام من الاقتصار على النفي، ولما أجمعوا على أنه ليس له ذلك علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير، والثاني: أن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد همّ بالمعصية ولم يفعل، وذلك لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي، فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير، فيجب أن يضمر في كل فعل على حدة فعلاً على حدة، فصار التقدير: أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا ممن الأرض إن أخافوا السبل، والقياس الجلي أيضاً يدل على صحة ما ذكرناه لأن القتل العمد العدوان يوجب القتل، فغلظ ذلك في قاطع الطريق، وصار القتل حتماً لا يجوز العفو عنه، وأخذ المال يتعلق به القطع في غير قاطع الطريق، فغلظ ذلك في قاطع الطريق بقطع الطرفين، وإن جمعوا بين القتل وبين أخذ المال جمع في حقهم بين القتل وبين الصلب، لأن بقاءه مصلوباً في ممر الطريق يكون سبباً لاشتهار إيقاع هذه العقوبة، فيصير ذلك زاجراً لغيره عن الإقدام على مثل هذه المعصية، وأما إن اقتصر على مجرد الإخافة اقتصر الشرع منه على عقوبة خفيفة وهي النفي من الأرض.

المسألة الخامسة: قال أبو حنيفةرحمه الله : إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخير فيه بين ثلاثة أشياء. أن يقتلهم فقط، أو يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم قبل القتل، أو يقتلهم ويصلبهم، وعند الشافعيرحمه الله : لا بدّ من الصلب، وهو قول أبي يوسفرحمه الله .

حجة الشافعيرحمه الله : أنه تعالى نص على الصلب كما نص على القتل فلم يجز إسقاط الصلب كما لم يجز إسقاط القتل. ثم اختلفوا في كيفية الصلب، فقيل: يصلب حياً ثم يزج بطنه برمح حتى يموت، وقال الشافعيرحمه الله : يقتل ويصلى عليه ثم يصلب.

المسألة السادسة: اختلفوا في تفسير النفي من الأرض. قال الشافعيرحمه الله : معناه إن وجد هؤلاء المحاربين قتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن لم يجدهم طلبهم أبداً حتى إذا قدر عليهم فعل بهم ما ذكرناه، وبه قال أحمد وإسحاق رحمهما الله. وقال أبو حنيفةرحمه الله : النفي من الأرض هو الحبس، وهو اختيار أكثر أهل اللغة، قالوا: ويدل عليه أن قوله { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلاْرْضِ } إما أن يكون المراد النفي من جميع الأرض، وذلك غير ممكن مع بقاء الحياة، وإما أن يكون إخراجه من تلك البلدة إلى بلدة أخرى، وهو أيضاً غير جائز؛ لأن الغرض من هذا النفي دفع شره عن المسلمين، فلو أخرجناه إلى بلد آخر لاستضر به من كان هناك من المسلمين، وإما أن يكون المراد إخراجه إلى دار الكفر وهو أيضاً غير جائز، لأن إخراج المسلم إلى دار الكفر تعريض له بالردة وهو غير جائز، ولما بطل الكل لم يبق إلاّ أن يكون المراد من النفي نفيه عن جميع الأرض إلاّ مكان الحبس. قالوا: والمحبوس قد يسمى منفياً من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا ولذاتها، ولا يرى أحداً من أحبابه، فصار منفياً عن جميع اللذات والشهوات والطيبات فكان كالمنفي في الحقيقة. ولما حبسوا صالح بن عبد القدوس على تهمة الزندقة في حبس ضيق وطال لبثه هناك ذكر شعراً، منه قوله:

خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلهافلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجةعجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

قال الشافعيرحمه الله : هذا النفي المذكور في الآية محمول على وجهين: الأول: أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد، وإن لم يأخذهم طلبهم أبداً فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي. الثاني: القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جمع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد، وإن لم يأخذهم طلبهم أبداً. فيقوم الشافعي هٰهنا: إن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فالمراد بنفيهم عن الأرض هو هذا الحبس لا غير، والله أعلم.

ثم قال تعالى: { ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا } أي فضيحة وهوان { وَلَهُمْ فِى ٱلأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.

قالت المعتزلة: الآية دالة على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة، ودالة على أن قتلهم قد أحبط ثوابهم، لأنه تعالى حكم بأن ذلك لهم خزي في الدنيا والآخرة، وذلك يدل على كونهم مستحقين للذم، وكونهم مستحقين للذم في الحال يمنع من بقاء استحاقهم للمدح والتعظيم لما أن ذلك جمع بين الضدين، وإذا كان الأمر كذلك ثبت القول بالقطع بوعيد الفساق، وثبت القول بالإحباط.

والجواب: لا نزاع بيننا وبينكم في أن هذا الحد إنما يكون واقعاً على جهة الخزي والاستخفاف إذا لم تحصل التوبة، فأما عند حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الخزي والاستخفاف، بل يكون على جهة الامتحان، فإذا جاز لكم أن تشترطوا هذا الحكم بعدم التوبة لدليل دل على اعتبار هذا الشرط، فنحن أيضاً نشرط هذا الحكم بشرط عدم العفو، وحينئذ لا يبقى الكلام إلاّ في أنه هل دلّ هذا الدليل على أنه تعالى يعفو عن الفساق أم لا؟ وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَـٰطَتْ بِهِ خَطِيـئَـتُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } [البقرة: 81] ثم قال تعالى: