التفاسير

< >
عرض

قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
٢٧

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وهو جواب لكلام مقدر، كأن الكافر حينما يلقى في النار يقول: ربنا أطغاني شيطاني، فيقول الشيطان: ربنا ما أطغيته، يدل عليه قوله تعالى بعد هذا { { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } [قۤ: 28] لأن الاختصام يستدعي كلاماً من الجانبين وحينئذ هذا، كما قال الله تعالى في هذه السورة وفي ص { { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } [صۤ: 60] وقوله تعالى: { { قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـٰذَا فَزِدْهُ } إلى أن قال: { { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } [صۤ: 61، 64] وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الزمخشري: المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد، واستدل عليه بهذا. وقال غيره، المراد الملك لا الشيطان، وهذا يصلح دليلاً لمن قال ذلك، وبيانه هو أنه في الأول لو كان المراد الشيطان، فيكون قوله { { هَـٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } [قۤ: 23] معناه هذا الشخص عندي عتيد متعد للنار اعتدته بإغوائي، فإن الزمخشري صرّح في تفسير تلك بهذه، وعلى هذا فيكون قوله { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } مناقضاً لقوله اعتدته وللزمخشري أن يقول الجواب: عنه من وجهين أحدهما: أن يقول إن الشيطان يقول اعتدته بمعنى زينت له الأمر وما ألجأته فيصح القولان من الشيطان وثانيهما: أن تكون الإشارة إلى حالين: ففي الحالة الأولى إنما فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام من بني آدم، وتصحيحاً لما قال: { { فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [صۤ: 82] ثم إذا رأى العذاب وأنه معه مشترك وله على الإغواء عذاب، كما قال تعالى: { فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ } [ص: 84، 85] فيقول { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } فيرجع عن مقالته عند ظهور العذاب.

المسألة الثانية: قال ههنا { قَالَ قرِينُهُ } من غير واو، وقال في الآية الأولى { { وَقَالَ قَرِينُهُ } [قۤ: 23] بالواو العاطفة، وذلك لأن في الأول الإشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين، وأن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق، ويقول الشهيد ذلك القول، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو، والفاء في قوله { { فَأَلْقِيَـٰهُ فِى ٱلْعَذَابِ } [قۤ: 26] لا يناسب قوله تعالى: { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } مناسبة مقتضية للعطف بالواو.

المسألة الثالثة: القائل ههنا واحد، وقال { رَبَّنَا } ولم يقل رب، وفي كثير من المواضع مع كون القائل واحداً، قال رب، كما في قوله { { قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143] وقول نوح { { رَبّ ٱغْفِرْ لِى } [نوح: 28] وقوله تعالى: { { قَالَ رَبّ ٱلسّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ } [يوسف: 33] وقوله { { قَالَتْ رَبّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى ٱلْجَنَّةِ } [التحريم: 11] إلى غير ذلك، وقوله تعالى: { { قَالَ رَبّ أَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ص: 79] نقول في جميع تلك المواضع القائل طالب، ولا يحسن أن يقول الطالب: يا رب عمرني واخصصني وأعطني كذا، وإنما يقول: أعطنا لأن كونه رباً لا يناسب تخصيص الطالب، وأما هذا الموضع فموضع الهيبة والعظمة وعرض الحال دون الطلب فقال: { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ }.

وقوله تعالى: { وَلَـٰكِن كَانَ فِى ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ }.

يعني أن ذلك لم يكن بإطغائه، وإنما كان ضالاً متغلغلاً في الضلال فطغى، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ما الوجه في اتصاف الضلال بالبعيد؟ نقول الضال يكون أكثر ضلالاً عن الطريق، فإذا تمادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصد كثيراً، وإذا علم الضلال قصر في الطريق من قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً، فقوله { ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ } وصف المصدر بما يوصف به الفاعل، كما يقال كلام صادق وعيشة راضية أي ضلال ذو بعد، والضلال إذا بعد مداه وامتد الضال فيه يصير بيناً ويظهر الضلال، لأن من حاد عن الطريق وأبعد عنه تتغير عليه السمات والجهات ولا يرى عين المقصد ويتبين له أنه ضل عن الطريق، وربما يقع في أودية ومفاوز ويظهر له أمارات الضلال بخلاف من حاد قليلاً، فالضلال وصفه الله تعالى بالوصفين في كثير من المواضع فقال تارة في ضلال مبين وأخرى قال: { فِى ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ }.

المسألة الثانية: قوله تعالى: { وَلَـٰكِن كَانَ فِى ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ } إشارة إلى قوله { { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [الحجر: 40] وقوله تعالى: { { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ } [الحجر: 42] أي لم يكونوا من العباد، فجعلهم أهل العناد، ولو كان لهم في سبيلك قدم صدق لما كان لي عليهم من يد، والله أعلم.

المسألة الثالثة: كيف قال ما أطغيته مع أنه قال: { { لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر: 39] قلنا الجواب عنه من ثلاثة أوجه وجهان: قد تقدما في الاعتذار عما قاله الزمخشري والثالث: هو أن يكون المراد من قوله { لأَغْوِيَنَّهُمْ } أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة، فلا تتركها، يقال إنه يضله كذلك ههنا، وقوله { مَا أَطْغَيْتُهُ } أي ما كان ابتداء الإطغاء مني.