التفاسير

< >
عرض

مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
٣٣

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفي { مِنْ } وجوه. أحدها: وهو أغربها أنه منادى كأنه تعالى قال: يا من خشي الرحمٰن أدخلوها بسلام وحذف حرف النداء شائع. وثانيها: { مِنْ } بدل عن كل في قوله تعالى: { { لِكُلّ أَوَّابٍ } [قۤ: 32] من غير إعادة حرف الجر تقديره أزلفت الجنة لمن خشي الرحمٰن بالغيب، ثالثها: في قوله تعالى: { { أَوَّابٍ حَفِيظٍ } [قۤ: 32] موصوف معلوم غير مذكور كأنه يقول لكل شخص أواب أو عبد أو غير ذلك، فقوله تعالى: { مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } بدل عن ذلك الموصوف هذه وجوه ثلاثة ذكرها الزمخشري، وقال لا يجوز أن يكون بدلاً عن أواب أو حفيظ لأن أواب وحفيظ قد وصف به موصوف معلوم غير مذكور كما بيناه والبدل في حكم المبدل منه، فتكون { مِنْ } موصوفاً بها ومن لا يوصف بها لا يقال: الرجل من جاءني جالسني، كم يقال الرجل الذي جاءني جالسني، هذا تمام كلام الزمخشري، فإن قال قائل إذا كان { مِنْ } والذي يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما؟ نقول: الأمر معقول نبينه في ما، ومنه يتبين الأمر فيه فنقول: ما اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء لكن الشيء هو أعم الأشياء فإن الجوهر شيء والعرض شيء والواجب شيء والممكن شيء والأعم قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت من البعد شبحاً تقول أولاًإنه شيء ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول إنسان فإذا بان ذلك أنه ذكر قلت هو رجل فإذا وجدته ذا قوة تقول شجاع إلى غير ذلك، فالأعم أعرف وهو قبل الأخص في الفهم فمفهوم ما قبل كل شيء فلا يجوز أن يكون صفة لأن الصفة بعد الموصوف هذا من حيث المعقول، وأما من حيث النحو فلأن الحقائق لا يوصف بها، فلا يقال جسم رجل جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني لأن الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها وكل ما يقع وصفاً للغير يكون معناه شيء له كذا، فقولنا عالم معناه شيء له علم أو عالمية فيدخل في مفهوم الوصف شيء مع أمر آخر وهو له كذا لكن ما لمجرد شيء فلا يوجد فيه ما يتم به الوصف وهو الأمر الآخر الذي معناه ذو كذا فلم يجز أن يكون صفة وإذا بان القول فمن في العقلاء كما في غيرهم وفيهم فمن معناه إنسان أو ملك أو غيرهما من الحقائق العاقلة، والحقائق لا تقع صفات، وأما الذي يقع على الحقائق والأوصاف ويدخل في مفهومه تعريف أكثر مما يدخل في مجاز الوصف بما دون من.

وفي الآية لطائف معنوية. الأول: الخشية والخوف معناهما واحد عند أهل اللغة، لكن بينهما فرق وهو أن الخشية من عظمة المخشي، وذلك لأن تركيب حرف خ ش ي في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة يقال شيخ للسيد والرجل الكبير السن وهم جميعاً مهيبان، والخوف خشية من ضعف الخاشي وذلك لأن تركيب خ و ف في تقاليبها يدل على الضعف تدل عليه الخيفة والخفية ولولا قرب معناهما لما ورد في القرآن { { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأنعام: 63] و { { تَضَرُّعًا وَخِيفَة } [الأعراف: 205] والمخفي فيه ضعف كالخائف إذا علمت هذا تبين لك اللطيفة وهي أن الله تعالى في كثير من المواضع ذكر لفظ الخشية حيث كان الخوف من عظمة المخشي قال تعالى: { { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء } [فاطر: 28]، وقال: { { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـٰشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [الحشر: 21] فإن الجبل ليس فيه ضعف يكون الخوف من ضعفه وإنما الله عظيم يخشاه كل قوي { { هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ } [المؤمنون: 57] مع أن الملائكة أقوياء وقال تعالى: { { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـٰهُ } [الأحزاب: 37] أي تخافهم إعظاماً لهم إذ لا ضعف فيك بالنسبة إليهم، وقال تعالى: { { لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ } [العنكبوت: 33] أي لا تخف ضعفاً فإنهم لا عظمة لهم وقال: { يَخَـٰفُونَ يَوْماً } [الإنسان: 7] حيث كان عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله ضعيفة وقال: { { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } [فصلت: 30] أي بسبب مكروه يلحقكم من الآخرة فإن المكروهات كلها مدفوعة عنكم، وقال تعالى: { { خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } [القصص: 21] وقال: { { إِنّى أَخَافُ إِنْ يَقْتُلُونَ } [القصص: 33] لوحدته وضعفه وقال هارون: { { إِنّى خَشِيتُ } [طه: 94] لعظمة موسى في عين هارون لا لضعف فيه وقال: { { فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـٰناً وَكُفْراً } [الكهف: 80] حيث لم يكن لضعف فيه، وحاصل الكلام أنك إذا تأملت استعمال الخشية وجدتها مستعملة لخوف بسبب عظمة المخشي، وإذا نظرت إلى استعمال الخوف وجدته مستعملاً لخشية من ضعف الخائف، وهذا في الأكثر وربما يتخلف المدعى عنه لكن الكثرة كافية. الثانية: قال الله تعالى ههنا: { خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ } مع أن وصف الرحمة غالباً يقابل الخشية إشارة إلى مدح المتقي حيث لم تمنعه الرحمة من الخوف بسبب العظمة، وقال تعالى: { { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـٰشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [الحشر: 21] إشارة إلى ذم الكافر حيث لم تحمله الألوهية التي تنبـىء عنها لفظة الله وفيها العظمة على خوفه وقال: { { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء } [فاطر: 28] لأن { إِنَّمَا } للحصر فكان فيه إشارة إلى أن الجاهل لا يخشاه فذكر الله ليبين أن عدم خشيته مع قيام المقتضى وعدم المانع وهو الرحمة، وقد ذكرنا ذلك في سورة يسۤ ونزيد ههنا شيئاً آخر، وهو أن نقول لفظة: { ٱلرَّحْمَـٰنُ } إشارة إلى مقتضى لا إلى المانع، وذلك لأن الرحمٰن معناه واهب الوجود بالخلق، والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو في الدنيا رحمان حيث أوجدنا بالرحمة، ورحيم حيث أبقى بالرزق، ولا يقال لغيره رحيم لأن البقاء بالرزق قد يظن أن مثل ذلك يأتي ممن يطعم المضطر، فيقال فلان هو الذي أبقى فلاناً، وهو في الآخرة أيضاً رحمان حيث يوجدنا، ورحيم حيث يرزقنا، وذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا قال: { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } إشارة إلى كونه رحماناً في الدنيا حيث خلقنا، رحيماً في الدنيا حيث رزقنا رحمة ثم قال مرة أخرى بعد قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } أي هو رحمٰن مرة أخرى في الآخرة بخلقنا ثانياً، واستدللنا عليه بقوله بعد ذلك: { { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } [الفاتحة: 4] أي يخلقنا ثانياً، ورحيم يرزقنا ويكون هو المالك في ذلك اليوم، إذا علمت هذا فمن يكون منه وجود الإنسان لا يكون خوفه خشية من غيره، فإن القائل يقول لغيره أخاف منك أن تقطع رزقي أو تبدل حياتي، فإذا كان الله تعالى رحماناً منه الوجود ينبغي أن يخشى، فإن من بيده الوجود بيده العدم، وقال صلى الله عليه وسلم: "خشية الله رأس كل حكمة" وذلك لأن الحكيم إذا تفكر في غير الله وجده محل التغير يجوز عليه العدم في كل طرفة عين، وربما يقدر الله عدمه قبل أن يتمكن من الإضرار، لأن غير الله إن لم يقدر الله أن يضر لا يقدر على الضرر وإن قدر عليه بتقدير الله فسيزول الضرر بموت المعذب أو المعذب، وأما الله تعالى فلا راد لما أراد ولا آخر لعذابه، وقال تعالى: { بِٱلْغَيْبِ } أي كانت خشيتهم قبل ظهور الأمور حيث ترى رأي العين، وقوله تعالى: { وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } إشارة إلى صفة مدح أخرى، وذلك لأن الخاشي قد يهرب ويترك القرب من المخشي ولا ينتفع، وإذا علم المخشي أنه تحت حكمه تعالى علم أنه لا ينفعه الهرب، فيأتي المخشي وهو (غير) خاش فقال: { وَجَاء } ولم يذهب كما يذهب الآبق، وقوله تعالى: { بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } الباء فيه يحتمل وجوهاً ذكرناها في قوله تعالى: { { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ } [قۤ: 19]. أحدها: التعدية أي أحضر قلباً سليماً، كما يقال ذهب به إذا أذهبه. ثانيها: المصاحبة يقال: اشترى فلان الفرس بسرجه أي مع سرجه، وجاء فلان بأهله أي مع أهله. ثالثها: وهو أعرفها الباء للسبب يقال: ما أخذ فلان إلا بقول فلان وجاء بالرجاء له فكأنه تعالى قال: جاء وما جاء إلا بسبب إنابة في قلبه علم أنه لا مرجع إلا إلى الله فجاء بسبب قلبه المنيب، والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى: { { إِذَا جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الصافات: 84] أي سليم من الشرك، ومن سلم من الشرك يترك غير الله ويرجع إلى الله فكان منيباً، ومن أناب إلى الله برىء من الشرك فكان سليماً