التفاسير

< >
عرض

نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ
٤٥

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

فيه وجوه. أحدها: تسلية لقلب النبـي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتحريض لهم على ما أمر به النبـي صلى الله عليه وسلم من الصبر والتسبيح، أي اشتغل بما قلناه ولا يشغلك الشكوى إلينا فإنا نعلم أقوالهم ونرى أعمالهم، وعلى هذا فقوله: { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } مناسب له أي لا تقل بأني أرسلت إليهم لأهديهم، فكيف أشتغل بما يشغلني عن الهداية وهو الصلاة والتسبيح، فإنك ما بعثت مسلطاً على دواعيهم وقدرهم، وإنما أمرت بالتبليغ، وقد بلغت فاصبر وسبح وانتظر اليوم الذي يفصل فيه بينكم. ثانيها: هي كلمة تهديد وتخويف لأن قوله: { { وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ } [قۤ: 43] ظاهر في التهديد بالعلم بعملكم لأن من يعلم أن مرجعه إلى الملك ولكنه يعتقد أن الملك لا يعلم ما يفعله لا يمتنع من القبائح، أما إذا علم أنه يعلمه وعنده غيبه وإليه عوده يمتنع فقال تعالى: { وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِير } و { نَّحْنُ أَعْلَمُ } وهو ظاهر في التهديد، وهذا حينئذ كقوله تعالى: { { ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [الزمر: 7]. ثالثها تقرير الحشر وذلك لأنه لما بيّن أن الحشر عليه يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يميز بين جزء بدنين جزء بدن زيد وجزء بدن عمرو فقال: { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } لكمال قدرتنا، ولا يخفى علينا الأجزاء لمكان علمنا، وعلى هذا فقوله: { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } معناه نحن نعلم عين ما يقولون في قولهم { { أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } [المؤمنون: 82] { { أَئذَا ضَلَلْنَا فِى ٱلأَرْضِ } [السجدة: 10] فيقول: نحن نعلم الأجزاء التي يقولون فيها إنها ضالة وخفية ولا يكون المراد نحن نعلم وقولهم في الأول جاز أن تكون ما مصدرية فيكون المراد من قوله: { بِمَا يَقُولُونَ } أي قولهم، وفي الوجه الآخر تكون خبرية، وعلى هذا الدليل فلا يصح قوله: { نَّحْنُ أَعْلَمُ } إذ لا عالم بتلك الأجزاء سواه حتى يقول: { نَّحْنُ أَعْلَمُ } نقول قد علم الجواب عنه مراراً من وجوه:

أحدها: أن أفعل لا يقتضي الاشتراك في أصل الفعل كما في قوله تعالى: { { وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـٰهُ } [الأحزاب: 37] وفي قوله تعالى: { { أَحْسَنُ نَدِيّاً } [مريم: 77]، وفي قوله: { { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27].

ثانيها: معناه نحن أعلم بما يقولون من كل عالم بما يعلمه، والأول أصح وأظهر وأوضح وأشهر وقوله: { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } فيه وجوه: أحدها: أن للتسلية أيضاً، وذلك لأنه لما من عليه بالإقبال على الشغل الأخروي وهو العبادة أخبر بأنه لم يصرف عن الشغل الآخر وهو البعث، كما أن الملك إذا أمر بعض عبيده بشغلين فظهر عجزه في أحدهما: يقول له أقبل على الشغل الآخر ومنهما ونحن نبعث من يقدر على الذي عجزت عن منهما، فقال: { اصبر. وسبح، وما أنت.. بجبار } أي فما كان امتناعهم بسبب تجبر منك أو تكبر فاشمأزوا من سوء خلقك، بل كنت بهم رؤوفاً وعليهم عطوفاً وبالغت وبلغت وامتنعوا فأقبل على الصبر والتسبيح غير مصروف عن الشغل الأول بسبب جبروتك، وهذا في معنى قوله تعالى: { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ } إلى أن قال: { { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 2 ـ 4]، ثانيها: هو بيان أن النبـي صلى الله عليه وسلم أتى بما عليه من الهداية، وذلك لأنه أرسله منذراً وهادياً لا ملجأ ومجبراً، وهذا كما في قوله تعالى: { { فَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } [الشورى: 18] أي تحفظهم من الكفر والنار، وقوله: { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ } في معنى قول القائل: اليوم فلان علينا، في جواب من يقول: من عليكم اليوم؟ أي من الوالي عليكم. ثالثها: هو بيان لعدم وقت نزول العذاب بعد، وذلك لأن النبـي صلى الله عليه وسلم لما أنذر وأعذر وأظهر لم يؤمنوا كان يقول إن هذا وقت العذاب، فقال: نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بمسلط فذكر بعذابـي إن لم يؤمنوا من بقي منهم مـمن تعلم أنه يؤمن ثم تسلط، ويؤيد هذا قول المفسرين أن الآية نزلت قبل نزول آية القتال، وعلى هذا فقوله: { فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } أي من بقي منهم ممن يخاف يوم الوعيد، وفيه وجوه أُخـر. أحدها: أنا بينا في أحد الوجوه أن قوله تعالى: { { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ } [قۤ: 39] معناه أقبل على العبادة، ثم قال: ولا تترك الهداية بالكلية بل وذكر المؤمنين { { فَإِنَّ ٱلذّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55] { { وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ } [الأعراف: 199] وقوله: { بِٱلْقُرْءانِ } فيه وجوه. الأول: فذكر بما في القرآن واتل عليهم القرآن يحصل لهم بسبب ما فيه المنفعة. الثاني: { فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ } أي بيّن به أنك رسول لكونه معجزاً، وإذا ثبت كونك رسولاً لزمهم قبول قولك في جميع ما تقول به. الثالث: المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير، وحينئذ يكون ذكر القرآن لانتفاع النبـي صلى الله عليه وسلم به أي اجعل القرآن إمامك، وذكرهم بما أخبرت فيه بأن تذكرهم، وعلى الأول معناه اتل عليهم القرآن ليتذكروا بسببه، وقوله تعالى: { مَن يَخَافُ وَعِيدِ } من جملة ما يبين كون الخشية دالة على عظمة المخشي أكثر مما يدل عليه الخوف، حيث قال: { يَخَافُ } عندما جعل المخوف عذاب ووعيده، وقال: { { اخشوني } [البقرة: 150] عندما جعل المخوف نفسه العظيم، وفي هذه الآية إشارة إلى الأصول الثلاثة، وقوله: { وَذَكَرَ } إشارة إلى أنه مرسل مأمور بالتذكير منزل عليه القرآن حيث قال: { بِٱلْقُرْءانِ } وقوله: { وَعِيدِ } إشارة إلى اليوم الآخر وضمير المتكلم في قوله: { وَعِيدِ } يدل على الوحدانية، فإنه لو قال من يخاف وعيد الله كان يذهب وهم الله إلى كل صوب فلذا قال: { وَعِيدِ } والمتكلم أعرف المعارف وأبعد عن الإشراك به وقبول الاشتراك فيه، وقد بينا في أول السورة أن أول السورة وآخرها متقاربان في المعنى حيث قال في الأول: { { ق وَٱلْقُرْءانِ ٱلْمَجِيدِ } [قۤ: 1] وقال في آخرها: { فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ }.

وهذا آخر تفسير هذه السورة والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته على خاتم النبيّين وسيد المرسلين محمد النبـي وآله وصحبه وأزواجه وذريته أجمعين.