التفاسير

< >
عرض

وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً
١
فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً
٢
فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً
٣
فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً
٤
-الذاريات

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها، وذلك لأنه تعالى لما بيّن الحشر بدلائله وقال: { { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيراً } [قۤ: 44] وقال: { { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [قۤ: 45] أي تجبرهم وتلجئهم إلى الإيمان إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان وتلاوة القرآن عليهم لم يبق إلا اليمين فقال: { والذارياتِ ذَرْواً... إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَـادِقٌ } وأول هذه السورة وآخرها متناسبان حيث قال في أولها: { { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَـٰدِقٌ } [الذاريات: 5] وقال في آخرها: { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ } [الذاريات: 60] وفي تفسير الآيات مسائل:

المسألة الأولى: قد ذكرنا الحكمة وهي في القسم من المسائل الشريفة والمطالب العظيمة في سورة والصافات، ونعيدها ههنا وفيها وجوه. الأول: أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبـي صلى الله عليه وسلم غالباً في إقامة الدليل وكانوا ينسبونه إلى المجادلة وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله، وإنه يغلبنا بقوة الجدل لا بصدق المقال، كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل ولم يبق له حجة، يقول إنه غلبني لعلمه بطريق الجدل وعجزي عن ذلك، وهو في نفسه يعلم أن الحق بيدي فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين، فيقول والله إن الأمر كما أقول، ولا أجادلك بالباطل، وذلك لأنه لو سلك طريقاً آخر من ذكر دليل آخر، فإذا تم الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول إن ذلك تقرير بقوة علم الجدل فلا يبقى إلا السكوت أو التمسك بالإيمان وترك إقامة البرهان. الثاني: هو أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلافع، ثم إن النبـي صلى الله عليه وسلم أكثر من الأيمان بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتاً، وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذباً، وإلا لأصابه شؤم الإيمان ولناله المكروه في بعض الأزمان. الثالث: وهو أن الأيمان التي حلف الله تعالى بها كلها دلائل أخرجها في صورة الأيمان مثاله قول القائل لمنعمه: وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك فيذكر النعم وهي سبب مفيد لدوام الشكر ويسلك مسلك القسم، كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة، فإن قيل فلم أخرجها مخرج الإيمان؟ نقول لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف بعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين حتى أقبل القوم على سماعه فخرج لهم البرهان المبين، والتبيان المتين في صورة اليمين، وقد استوفينا الكلام في سورة والصافات.

المسألة الثانية: في جميع السور التي أقسم الله في ابتدائها بغير الحروف كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة وهي: الوحدانية والرسالة والحشر، وهي التي يتم بها الإيمان، ثم إنه تعالى لم يقسم لإثبات الوحدانية إلا في سورة واحدة من تلك السور وهي { وَٱلصَّـٰفَّـٰتِ } حيث قال فيها: { { إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ } [الصافات: 4] وذلك لأنهم وإن كانوا يقولون: { { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وٰحِداً } [صۤ: 5] على سبيل الإنكار، وكانوا يبالغون في الشرك، لكنهم في تضاعيف أقوالهم، وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد، وكانوا يقولون: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى } [الزمر: 3] وقال تعالى: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [الزمر: 38] فلم يبالغوا في الحقيقة في إنكار المطلوب الأول، فاكتفى بالبرهان، ولم يكثر من الأيمان، وفي سورتين منها أقسم لإثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وكونه رسولاً في إحداهما بأمر واحد، وهو قوله تعالى: { { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَـٰحِبُكُمْ } [النجم: 1، 2] وفي الثانية بأمرين وهو قوله تعالى: { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [الضحى: 1 ـ 3] وذلك لأن القسم على إثبات رسالته قد كثر بالحروف والقرآن، كما في قوله تعالى: { { يس * وَٱلْقُرْءانِ ٱلْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [يۤس: 1 ـ 3] وقد ذكرنا الحكم فيه أن معجزات النبـي صلى الله عليه وسلم القرآن، فأقسم به ليكون في القسم الإشارة واقعة إلى البرهان، وفي باقي السور كان المقسم عليه الحشر والجزاء وما يتعلق به لكون إنكارهم في ذلك خارجاً عن الحد، وعدم استيفاء ذلك في صورة القسم بالحروف.

المسألة الثالثة: أقسم الله تعالى بجموع السلامة المؤنثة في سور خمس، ولم يقسم بجموع السلامة المذكورة في سورة أصلاً، فلم يقل: والصالحين من عبادي، ولا المقربين إلى غير ذلك، مع أن المذكر أشرف، وذلك لأن جموع السلام بالواو والنون في الأمر الغالب لمن يعقل، وقد ذكرنا أن القسم بهذه الأشياء ليس لبيان التوحيد إلا في صورة ظهور الأمر فيه، وحصول الاعتراف منهم به، ولا للرسالة لحصول ذلك في صور القسم بالحروف والقرآن.

بقي أن يكون المقصود إثبات الحشر والجزاء، لكن إثبات الحشر لثواب الصالح، وعذاب الصالح، ففائدة ذلك راجع إلى من يعقل، فكان الأمر يقتضي أن يكون القسم بغيرهم، والله أعلم.

المسألة الرابعة: في السورة التي أقسم لإثبات الوحدانية، أقسم في أول الأمر بالساكنات حيث قال: { { وَٱلصَّـٰفَّـٰتِ } [الصافات: 1] وفي السور الأربع الباقية أقسم بالمتحركات، فقال: { وَٱلذرِيَـٰتِ } وقال: { { وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ } [المرسلات: 1] وقال: { { وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ } [النازعات: 1] ويؤيده قوله تعالى: { { وَٱلسَّـٰبِحَـٰتِ... فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ } [النازعات: 3، 4] وقال: { { وَٱلْعَـٰدِيَـٰتِ } [العاديات: 1] وذلك لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وذلك بالحركة أليق، أو أن نقول في جميع السور الأربع أقسم بالرياح على ما بين وهي التي تجمع وتفرق، فالقادر على تأليف السحاب المتفرق بالرياح الذارية والمرسلة، قادر على تأليف الأجزاء المتفرقة بطريق من الطرق التي يختارها بمشيئته تعالى.

المسألة الخامسة: في الذاريات أقوال. الأول: هي الرياح تذرو التراب وغيره، كما قال تعالى: { { تَذْرُوهُ ٱلرّياحُ } [الكهف: 45]. الثاني: هي الكواكب من ذرا يذرو إذا أسرع. الثالث: هي الملائكة. الرابع: رب الذاريات، والأول أصح.

المسألة السادسة: الأمور الأربعة جاز أن تكون أموراً متباينة، وجاز أن تكون أمراً له أربع اعتبارات. والأول: هي ما روي عن علي عليه السلام، أن الذاريات هي الرياح والحاملات هي السحاب، والجاريات هي السفن، والمقسمات هي الملائكة الذين يقسمون الأرزاق. والثاني: وهو الأقرب أن هذه صفات أربع للرياح، فالذاريات هي الرياح التي تنشىء السحاب أولاً، والحاملات هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه التي إذا سحت جرت السيول العظيمة، وهي أوقار أثقل من جبال، والجاريات هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها، والمقسمات هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار، ويحتمل أن يقال هذه أمور أربعة مذكورة في مقابلة أمور أربعة بها تتم الإعادة، وذلك لأن الأجزاء التي تفرقت بعضها في تخوم الأرضين، وبعضها في قعور البحور، وبعضها في جو الهواء، وهي الأجزاء اللطيفة البخارية التي تنفصل عن الأبدان، فقوله تعالى: { وَٱلذرِيَـٰتِ } يعني الجامع للذاريات من الأرض، على أن الذارية هي التي تذرو التراب عن وجه الأرض، وقوله تعالى: { فَٱلْحَـٰمِلَـٰتِ وِقْراً } هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً، بل تنقله من موضع، وترميه في موضع بخلاف السحاب، فإنه يحمله وينقله في الجو حملاً لا يقع منه شيء، وقوله: { فَٱلْجَـٰرِيَـٰتِ يُسْراً } إشارة إلى الجامع من الماء، فإن من يجري السفن الثقيلة من تيار البحار إلى السواحل يقدر على نقل الأجزاء من البحر إلى البر، فإذا تبين أن الجمع من الأرض، وجو الهواء ووسط البحار ممكن، وإذا اجتمع يبقى نفخ الروح لكن الروح من أمر الله، كما قال تعالى: { { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى } [الإسراء: 85] فقال: { فَٱلْمُقَسّمَـٰتِ أَمْراً } الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأمر الله، وإنما ذكرهم بالمقسمات، لأن الإنسان في الأجزاء الجسمية غير مخالف تخالفاً بيناً، فإن لكل أحد رأساً ورجلاً، والناس متقاربة في الأعداد والأقدار، لكن التفاوت الكثير في النفوس، فإن الشريفة والخسيسة بينهما غاية الخلاف، وتلك القسمة المتفاوتة تتقسم بمقسم مختار ومأمور مختار فقال: { فَٱلْمُقَسّمَـٰتِ أَمْراً }.

المسألة السابعة: ما هذه المنصوبات من حيث النحو؟ فنقول أما { ذَرْواً } فلا شك في كونه منصوباً على أنه مصدر، وأما { وِقْراً } فهو مفعول به، كما يقال: حمل فلان عدلاً ثقيلاً، ويحتمل أن يكون اسماً أقيم مقام المصدر، كما يقال: ضربه سوطاً يؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو. وأما { يُسْراً } فهو أيضاً منصوب على أنه صفة مصدر، تقديره جرياً ذا يسر، وأما { المقسمات أمْراً } فهو إما مفعول به، كما يقال: فلان قسم الرزق أو المال وإما حال أتى على صورة المصدر، كما يقال: قتلته صبراً، أي مصبوراً كذلك ههنا { المقسمات أمْراً } أي مأمورة، فإن قيل: إن كان { وِقْراً } مفعوله به فلم لم يجمع، ومما قيل: والحاملات أوقاراً؟ نقول: لأن الحاملات على ما ذكرنا صفة الرياح، وهي تتوارد على وقر واحد، فإن ريحاً تهب وتسوق السحابة فتسبق السحاب، فتهب أخرى وتسوقها، وربما تتحول عنه يمنة ويسرة بسبب اختلاف الرياح، وكذلك القول في المقسمات أمراً، إذا قلنا هو مفعول به، لأن جماعة يكونون مأمورين تنقسم أمراً واحداً، أو نقول هو في تقدير التكرير كأنه قال: فالحاملات وقراً وقراً، والمقسمات أمراً أمراً.

المسألة الثامنة: ما فائدة الفاء؟ نقول: إن قلنا إنها صفات الرياح فلبيان ترتيب الأمور في الوجود، فإن الذاريات تنشىء السحاب فتقسم الأمطار على الأمطار، وإن قلنا إنها أمور أربعة فالفاء للترتيب في القسم لا للترتيب في القسم لا للترتيب في المقسم به، كأنه يقول: أقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحب الحاملات ثم بالسفن الجاريات ثم بالملائكة المقسمات، وقوله: { فَٱلْحَـٰمِلَـٰتِ } وقوله: { فَٱلْجَـٰرِيَـٰتِ } إشارة إلى بيان ما في الرياح من الفوائد، أما في البر فإنشاء السحب، وأما في البحر فإجراء السفن، ثم المقسمات إشارة إلى ما يترتب على حمل السحب وجري السفن من الأرزاق، والأرياح التي تكون بقسمة الله تعالى فتجري سفن بعض الناس كما يشتهي ولا تربح وبعضهم تربح وهو غافل عنه، كما قال تعالى: { { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ } [الزخرف: 32].