التفاسير

< >
عرض

إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
٢٥
-الذاريات

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ما العامل في إذ؟ فيه وجوه. أحدها: ما في المكرمين من الإشارة إلى الفعل إن قلنا وصفهم بكونهم مكرمين بناء على أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم فيكون كأنه تعالى يقول: أكرموا إذ دخلوا، وهذا من شأن الكريم أن يكرم ضيفه وقت الدخول. ثانيها: ما في الضيف من الدلالة على الفعل، لأنا قلنا إن الضيف مصدر فيكون كأنه يقول: أضافهم إذ دخلوا. وثالثها: يحتمل أن يكون العامل فيه أتاك تقديره ما أتاك حديثهم وقت دخولهم، فاسمع الآن ذلك، لأن هل ليس للاستفهام في هذا الموضع حقيقة بل للإعلام، وهذا أولى لأنه فعل مصرّح به، ويحتمل أن يقال اذكر إذ دخلوا.

المسألة الثانية: لماذا اختلف إعراب السلامين في القراءة المشهورة؟ نقول: نبين أولاً وجوه النصب والرفع، ثم نبيّن وجوه الاختلاف في الإعراب، أما النصب فيحتمل وجوهاً:

أحدها: أن يكون المراد من السلام هو التحية وهو المشهور، ونصبه حينئذ على المصدر تقديره نسلم سلاماً. ثانيها: هو أن يكون السلام نوعاً من أنواع الكلام وهو كلام سلم به المتكلم من أن يلغو أو يأثم فكأنهم لما دخلوا عليه فقالوا حسناً سلموا من الإثم، وحينئذ يكون مفعولاً للقول لأن مفعول القول هو الكلام، يقال قال فلان كلاماً، ولا يكون هذا من باب ضربه سوطاً لأن المضروب هناك ليس هو السوط، وههنا القول هو الكلام فسره قوله تعالى: { { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63] وقوله تعالى: { { قِيلاً سَلَـٰماً سَلَـٰماً } [الواقعة: 21].

ثالثها: أن يكون مفعول فعل محذوف تقديره نبلغك سلاماً، لا يقال على هذا إن المراد لو كان ذلك لعلم كونهم رسل الله عند السلام فما كان يقول: { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ولا كان يقرب إليهم الطعام، ولما قال: { { نَكِرَهُمْ وأوجس } [هود: 70] لأنا نقول جاز أن يقال إنهم قالوا: نبلغك سلاماً ولم يقولوا من الله تعالى إلى أن سألهم إبراهيم عليه السلام مـمن تبلغون لي السلام، وذلك لأن الحكيم لا يأتي بالأمر العظيم إلا بالتدريج فلما كانت هيبتهم عظيمة، فلو ضموا إليه الأمر العظيم الذي هو السلام من الله تعالى لانزعج إبراهيم عليه السلام، ثم إن إبراهيم عليه السلام اشتغل بإكرامهم عن سؤالهم وآخر السؤال إلى حين الفراغ فنكرهم بين السلام والسؤال عمن منه السلام هذا وجه النصب، وأما الرفع فنقول يحتمل أن المراد منه السلام الذي هو التحية وهو المشهور أيضاً، وحينئذ يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره سلام عليكم، وكون المبتدأ نكرة يحتمل في قول القائل سلام عليكم وويل له، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره قال جوابه سلام، ويحتمل أن يكون المراد قولاً يسلم به أو ينبـىء عن السلامة فيكون خبر مبتدأ محذوف تقديره أمري سلام بمعنى مسالمة لا تعلق بيني وبينكم لأني لا أعرفكم، أو يكون المبتدأ قولكم، وتقديره قولكم سلام ينبـىء عن السلامة وأنتم قوم منكرون فما خطبكم فإن الأمر أشكل علـيَّ وهذا ما يحتمل أن يقال في النصب والرفع، وأما الفرق فنقول أما على التفسير المشهور وهو أن السلام في الموضعين بمعنى التحية فنقول الفرق بينهما من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.

أما من حيث اللفظ: فنقول سلام عليك إنما جوز واستحسن لكونه مبتدأ وهو نكرة، من حيث إنه كالمتروك على أصله لأن الأصل أن يكون منصوباً على تقدير أسلم سلاماً وعليك يكون لبيان من أريد بالسلام، ولا يكون لعليك حظ من المعنى غير ذلك البيان فيكون كالخارج عن الكلام، والكلام التام أسلم سلاماً، كما أنك تقول ضربت زيداً على السطح يكون على السطح خارجاً عن الفعل والفاعل والمفعول لبيان مجرد الظرفية، فإذا كان الأمر كذلك وكان السلام والأدعية كثير الوقوع، قالوا نعدل عن الجملة الفعلية إلى الإسمية ونجعل لعليك حظاً في الكلام، فنقول سلام عليك، فتصير عليك لفائدة لا بد منها، وهي الخبرية، ويترك السلام نكرة كما كان حال النصب، إذا علم هذا فالنصب أصل والرفع مأخوذ منه، والأصل مقدم على المأخوذ منه، فقال: { قَالُواْ سَلَـٰماً قَالَ سَلَـٰمٌ } قدم الأصل على المتفرع منه.

وأما من حيث المعنى: فذلك لأن إبراهيم عليه السلام أراد أن يرد عليهم بالأحسن، فأتى بالجملة الإسمية فإنها أدل على الدوام والاستمرار، فإن قولنا جلس زيد لا ينبـىء عنه لأن الفعل لا بد فيه من الإنباء عن التجدد والحدوث ولهذا لو قلت: الله موجود الآن لأثبت العقل الدوام إذ لا ينبـىء عن التجدد، ولو قال قائل: وجد الله الآن لكاد ينكره العاقل لما بينا فلما قالوا: سلاماً قال: سلام عليكم مستمر دائم، وأما على قولنا المراد القول ذو السلامة فظاهر الفرق، فإنهم قالوا قولاً ذا سلام، وقال لهم إبراهيم عليه السلام: سلام أي قولكم ذو سلام وأنتم قوم منكرون فالتبس الأمر علـيّ، وإن قلنا المراد أمر مسالمة ومتاركة وهم سلموا عليه تسليماً، فنقول فيه جمع بين أمرين: تعظيم جانب الله، ورعاية قلب عباد الله، فإنه لو قال: سلام عليكم وهو لم يعلم كونهم من عباد الله الصالحين كان يجوز أن يكونوا على غير ذلك، فيكون الرسول قد أمنهم، فإن السلام أمان وأمان الرسول أمان المرسل فيكون فاعلاً للأمر من غير إذن الله نيابة عن الله فقال: أنتم سلمتم علـيّ وأنا متوقف أمري متاركة لا تعلق بيننا إلى أن يتبين الحال ويدل على هذا هو أن الله تعالى قال: { { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63] وقال في مثل هذا المعنى للنبـي صلى الله عليه وسلم: { { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـٰمٌ } [الزخرف: 89] ولم يقل قل سلاماً، وذلك لأن الأخيار المذكورين في القرآن لو سلموا على الجاهلين لا يكون ذلك سبباً لحرمة التعرض إليهم، وأما النبـي صلى الله عليه وسلم لو سلم عليهم لصار ذلك سبباً لحرمة التعرض إليهم، فقال: قل سلام أي أمري معكم متاركة تركناه إلى أن يأتي أمر الله بأمر، وأما على قولنا بمعنى نبلغ سلاماً فنقول هم لما قالوا نبلغك سلاماً ولم يعلم إبراهيم عليه السلام أنه ممن قال سلام أي إن كان من الله فإن هذا منه قد ازداد به شرفي وإلا فقد بلغني منه سلام وبه شرفي ولا أتشرف بسلام غيره، وهذا ما يمكن أن يقال فيه، والله أعلم بمراده الأول والثاني عليهما الاعتماد فإنهما أقوى وقد قيل بهما.

المسألة الثالثة: قال في سورة هود: { { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } [هود: 70] فدل على أن إنكارهم كان حاصلاً بعد تقريبه العجل منهم وقال ههنا: { قَالَ سَلَـٰمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ }.