التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
٥٤
-القمر

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

قد ذكرنا تفسير المتقين والجنات في سور منها: { ٱلطُّورِ } وأما النهر ففيه قراءات فتح النون والهاء كحجر وهو اسم جنس ويقوم مقام الأنهار وهذا هو الظاهر الأصح وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لا شك أن كمال اللذة بالبستان أن يكون الإنسان فيه، وليس من اللذة بالنهر أن يكون الإنسان فيه، بل لذته أن يكون في الجنة عند النهر، فما فمعنى قوله تعالى: { وَنَهَرٍ }؟ نقول: قد أجبنا عن هذا في تفسير قوله تعالى: { { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ } [الذاريات: 15] في سورة الذاريات، وقلنا: المراد في خلال العيون، وفيما بينها من المكان وكذلك في جنات لأن الجنة هي الأشجار التي تستر شعاع الشمس، ولهذا قال تعالى: { { فِى ظِلَـٰلٍ وَعُيُونٍ } [المرسلات: 41]. وإذا كانت الجنة هي الأشجار الساترة فالإنسان لا يكون في الأشجار وإنما يكون بينها أو خلالها، فكذلك النهر، ونزيد ههنا وجهاً آخر وهو أن المراد في جنات وعند نهر لكون المجاورة تحسن إطلاق اللفظ الذي لا يحسن إطلاقه عند عدم المجاورة كما قال:

"علفتهـا تبنـاً ومـاء بـارداً"

وقالوا: تقلدت سيفاً ورمحاً، والماء لا يعلف والرمح لا يتقلد ولكن لمجاورة التبن والسيف حسن الإطلاق فكذلك هنا لم يأت في الثاني بما أتى به في الأول من كلمة في.

المسألة الثانية: وحد النهر مع جمع الجنات وجمع الأنهار وفي كثير من المواضع كما في قوله تعالى: { { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } [البقرة: 25] إلى غيره من المواضع فما الحكمة فيه؟ نقول: أما على الجواب الأول فنقول: لما بين أن معنى في نهر في خلال فلم يكن للسامع حاجة إلى سماع الأنهار، لعلمه بأن النهر الواحد لا يكون له خلال. وأما في قوله تعالى: { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } فلو لم يجمع الأنهار لجاز أن يفهم أن في الجنات كلها نهراً واحداً كما في الدنيا فقد يكون نهر واحد ممتد جار في جنات كثيرة وأما على الثاني فنقول: الإنسان يكون في جنات لأنا بينا أن الجمع في جنات إشارة إلى سعتها وكثرة أشجارها وتنوعها والتوحيد عندما قال: { { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ } [محمد: 15] وقال: { { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [التوبة: 111] لاتصال أشجارها ولعدم وقوع القيعان الخربة بينها، وإذا علمت هذا فالإنسان في الدنيا إذا كان في بيت في دار وتلك الدار في محلة، وتلك المحلة في مدينة، يقال إنه في بلدة كذا، وأما القرب فإذا كان الإنسان في الدنيا بين نهرين بحيث يكون قربه منهما على السواء يقال إنه جالس عند نهرين، فإذا قرب من أحدهما يقال من عند أحد نهرين دون الآخر، لكن في دار الدنيا لا يمكن أن يكون عند ثلاثة أنهار وإنما يمكن أن يكون عند نهرين، والثالث منه أبعد من النهرين، فهو في الحقيقة ليس يكون في زمان واحد عند أنهار والله تعالى يذكر أمر الآخرة على ما نفهمه في الدنيا، فقال: عند نهر لما بينا أن قوله: { وَنَهَرٍ } وإن كان يقتضي في نهر لكن ذلك للمجاورة كما في تقلدت سيفاً ورمحاً، وأما قوله: { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } فحقيقته مفهومة عندنا لأن الجنة الواحدة قد يجري فيها أنهار كثيرة أكثر من ثلاثة وأربعة، فهذا ما فيه مع أن أواخر الآيات يحسن فيها التوحيد دون الجمع، ويحتمل أن يقال و{ نهر } التنكير للتعظيم. وفي الجنة نهر وهو أعظم الأنهر وأحسنها، وهو الذي من الكوثر، ومن عين الرضوان وكان الحصول عنده شرفاً وغبطه وكل أحد يكون له مقعد عنده وسائر الأنهار تجري في الجنة ويراها أهلها ولا يرون القاعد عندها فقال: { فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ } أي ذلك النهر الذي عنده مقاعد المؤمنين، وفي قوله تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ } [البقرة: 249] لكونه غير معلوم لهم، وفي هذا وجه حسن أيضاً ولا يحتاج على الوجهين أن نقول: نهر في معنى الجمع لكونه اسم جنس.

المسألة الثالثة: قال ههنا: { فِى } وقال في الذاريات: { وَعُيُونٍ } [الذاريات: 15] فما الفرق بينهما؟ نقول: إنا إن قلنا في نهر معناه في خلال فالإنسان يمكن أن يكون في الدنيا في خلال عيون كثيرة تحيط به إذا كان على موضع مرتفع من الأرض والعيون تنفجر منه وتجري فتصير أنهاراً عند الامتداد ولا يمكن أن يكون وفي خلال أنهار وإنما هي نهران فحسب، وأما إن قلنا: إن المراد عند نهر فكذلك وإن قلنا:...أي عظيم عليه مقاعد، فنقول: يكون ذلك النهر ممتداً واصلاً إلى كل واحد وله عنده مقعد عيون كثيرة تابعة، فالنهر للتشريف والعيون للتفرج والتنزه مع أن النهر العظيم يجتمع مع العيون الكثيرة فكان النهر مع وحدته يقوم مقام العيون مع كثرتها وهذا كله مع النظر إلى أواخر الآيات ههنا وهناك يحسن ذكر لفظ الواحد ههنا والجمع هناك.

المسألة الرابعة: قرىء: { فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ } على أنها جمع نهار إذ لا ليل هناك وعلى هذا فكلمة في حقيقة فيه فقوله: { فِي جَنَّـٰتِ } ظرف مكان، وقوله: { وَنَهَرٍ } أي وفي نهر إشارة إلى ظرف زمان، وقرىء { ونهر } بسكون الهاء وضم النون على أنه جمع نهر كأسد في جمع أسد نقله الزمخشري، ويحتمل أن يقال: نهر بضم الهاء جمع نهر كثمر في جمع ثمر.