التفاسير

< >
عرض

ٱلرَّحْمَـٰنُ
١
عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ
٢
خَلَقَ ٱلإِنسَانَ
٣
عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ
٤
-الرحمن

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أولاً أن مناسبة هذه السورة لما قبلها بوجهين أحدهما: أن الله تعالى افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على العزة والجبروت والهيبة وهو انشقاق القمر، فإن من يقدر على شق القمر يقدر على هد الجبال وقد الرجال، وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والرحموت وهو القرآن الكريم، فإن شفاء القلوب بالصفاء عن الذنوب ثانيهما: أنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة: { { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } [القمر: 16] غير مرة، وذكر في السورة: { { فَبِأَيّ ءَالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } [الرحمن: 13] مرة بعد مرة لما بينا أن تلك السورة سورة إظهار الهيبة، وهذه السورة سورة إظهار الرحمة، ثم إن أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها حيث قال في آخر تلك السورة: { { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [القمر: 55]، والاقتدار إشارة إلى الهيبة والعظمة وقال ههنا: { ٱلرَّحْمَـٰنُ } أي عزيز شديد منتقم مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار، رحمن منعم غافر للأبرار. ثم في التفسير مسائل:

المسألة الأولى: في لفظ { ٱلرَّحْمَـٰنُ } أبحاث، ولا يتبين بعضها إلا بعد البحث في كلمة الله فنقول:

المبحث الأول: من الناس من يقول: إن الله مع الألف واللام اسم علم لموجد الممكنات وعلى هذا فمنهم من قال: { ٱلرَّحْمَـٰنُ } أيضاً اسم علم له وتمسك بقوله تعالى: { { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ } [الإسراء: 110] أي أياً ما منهما، وجوز بعضهم قول القائل: يا الرحمن كما يجوز يا الله وتمسك بالآية وكل هذا ضعيف وبعضها أضعف من بعض، أما قوله: الله مع الألف واللام اسم علم ففيه بعض الضعف وذلك لأنه لو كان كذلك لكانت الهمزة فيه أصلية، فلا يجوز أن تجعل وصلية، وكان يجب أن يقال: خلق الله كما يقال: علم أحمد وفهم إسماعيل، بل الحق فيه أحد القولين: إما أن نقول: إله أو لاه اسم لموجد الممكنات اسم علم، ثم استعمل مع الألف واللام كما في الفضل والعباس والحسن والخليل، وعلى هذا فمن سمى غيره إلهاً فهو كمن يستعمل في مولود له فيقول لابنه محمد وأحمد وإن كان علمين لغيره قبله في أنه جائز لأن من سمى ابنه أحمد لم يكن له من الأمر المطاع ما يمنع الغير عن التسمية به ولم يكن له الاحتجار وأخذ الاسم لنفسه أو لولده بخلاف الملك المطاع إذا استأثر لنفسه اسماً لا يستجرىء أحد ممن تحت ولايته ما دام له الملك أن يسمى ولده أو نفسه بذلك الاسم خصوصاً من يكون مملوكاً لا يمكنه أن يسمي نفسه باسم الملك ولا أن يسمي ولده به، والله تعالى ملك مطاع وكل من عداه تحت أمره فإذا استأثر لنفسه اسماً لا يجوز للعبيد أن يتسموا بذلك الاسم، فمن يسمى فقد تعدى فالمشركون في التسمية متعدون، وفي المعنى ضالون وإما أن نقول: إله أو لاه اسم لمن يعبد والألف واللام للتعريف، ولما امتنع المعنى عن غير الله امتنع الاسم، فإن قيل: فلو سمى أحد ابنه به كان ينبغي أن يجوز؟ قلنا: لا يجوز لأنه يوهم أنه اسم موضوع لذلك الابن لمعنى لا لكونه علماً، فإن قيل: تسمية الواحد بالكريم والودود جائزة قلنا: كل ما يكون حمله على العلم وعلى اسم لمعنى ملحوظ في اللفظ الذكرى لا يفضي إلى خلل يجوز ذلك فيه فيجوز تسمية الواحد بالكريم والودود ولا يجوز تسميته بالخالق، والقديم لأن على تقدير حمله على أنه علم غير ملحوظ فيه المعنى يجوز، وعلى تقدير حمله على أنه اسم لمعنى هو قائم به كالقدرة التي بها بقاء الخلق أو العدم، فلا يجوز لكن اسم المعبود من هذا القبيل فلا يجوز التسمية به، فأحد هذين القولين حق وقولهم مع الألف واللام علم ليس بحق، إذا عرفت البحث في الله فما يترتب عليه، وهو أن الرحمن اسم على أضعف منه، وتجويز يا الرحمن أضعف من الكل.

البحث الثاني: الله والرحمن في حق الله تعالى كالاسم الأول والوصف الغالب الذي يصير كالاسم بعد الاسم الأول كما في قولنا: عمر الفاروق، وعلى المرتضى وموسى الرضا، وغير ذلك مما نجده في أسماء الخلفاء وأوصافهم المعرفة لهم التي كانت لهم وصفاً وخرجت بكثرة الاستعمال عن الوصفية، حتى إن الشخص وإن لم يتصف به أو فارقه الوصف يقال له ذلك كالعلم فإذن للرحمن اختصاص بالله تعالى، كما أن لتلك الأوصاف اختصاصاً بأولئك غير أن في تلك الأسماء والأوصاف جاز الوضع لما بينا حيث استوى الناس في الاقتدار والعظمة، ولا يجوز في حق الله تعالى، فإن قيل: إن من الناس من أطلق لفظ الرحمن على اليمامي، نقول: هو كما أن من الناس من أطلق لفظ الإله على غير الله تعدياً وكفراً، نظراً إلى جوازه لغة وهو اعتقاد باطل.

البحث الثالث: لله تعالى رحمتان سابقة ولاحقة فالسابقة هي التي بها خلق الخلق واللاحقة هي التي أعطى بها الخلق بعد إيجاده إياهم من الرزق والفطنة وغير ذلك فهو تعالى بالنظر إلى الرحمة السابقة رحمن، وبالنظر إلى اللاحقة رحيم، ولهذا يقال: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، فهو رحمن، لأنه خلق الخلق أولاً برحمته، فلما لم يوجد في غيره هذه الرحمة ولم يخلق أحد حداً لم يجز أن يقال لغيره: رحمـٰن، ولما تخلق الصالحون من عباده ببعض أخلاقه على قدر الطاقة البشرية، وأطعم الجائع وكسا العاري، وجد شيء من الرحمة اللاحقة التي بها الرزق والإعانة فجاز أن يقال له رحيم، وقد ذكرنا هذا كله في تفسير سورة الفاتحة غير أنا أردنا أن يصير ما ذكرنا مضموماً إلى ما ذكرناه هناك، فأعدناه ههنا لأن هذا كله كالتفصيل لما ذكرناه في الفاتحة.

المسألة الثانية: { ٱلرَّحْمَـٰنُ } مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي قوله: { عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ } وقيل { ٱلرَّحْمَـٰنُ } (خبر) مبتدأ تقديره هو الرحمن، ثم أتى بجملة بعد جملة فقال: { عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ } والأول أصح، وعلى القول الضعيف الرحمن آية.

المسألة الثالثة: قوله تعالى: { عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ } لا بد له من مفعول ثان فما ذلك؟ نقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: قيل: علم بمعنى جعله علامة أي هو علامة النبوة ومعجزة وهذا يناسب قوله تعالى: { { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [القمر: 1] على ما بينا أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيئة وهو أنه شق مالا يشقه أحد غيره، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة، وهو أنه نشر من العلوم مالا ينشره غيره، وهو ما في القرآن، وعلى هذا الوجه من الجواب ففيه احتمال آخر، وهو أنه جعله بحيث يعلم فهو كقوله: { { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ } [القمر: 17] والتعليم على هذا الوجه مجاز. يقال: إن أنفق على متعلم وأعطى أجرة على تعليمة علمه وثانيهما: أن المفعول الثاني لا بد منه وهو جبريل وغيره من الملائكة علمهم القرآن ثم أنزله على عبده كما قال تعالى: { { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [الشعراء: 193، 194] ويحتمل أن يقال: المفعول الثاني هو محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أن القرآن كلام الله تعالى لا كلام محمد، وفيه وجه ثالث: وهو أنه تعالى علم القرآن الإنسان، وهذا أقرب ليكون الإنعام أتم والسورة مفتتحة لبيان الأعم من النعم الشاملة.

المسألة الرابعة: لم ترك المفعول الثاني؟ نقول: إشارة إلى أن النعمة في تعميم التعليم لا في تعليم شخص دون شخص، يقال: فلان يطعم الطعام إشارة إلى كرمه، ولا يبين من يطعمه.

المسألة الخامسة: ما معنى التعليم؟ نقوله على قولنا له مفعول ثان إفادة العلم به، فإن قيل: كيف يفهم قوله تعالى: { عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ } مع قوله: { { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } ؟ [آل عمران: 7] نقول: من لا يقف عند قوله: { إِلاَّ ٱللَّهُ } ويعطف: { ٱلرَّاسِخُونَ } على الله عطف المفرد على المفرد لا يرد عليه هذا، ومن يقف ويعطف قوله تعالى: { وَٱلراسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } على قوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } عطف جملة على جملة يقول: إنه تعالى علم القرآن، لأن من علم كتاباً عظيماً ووقع على ما فيه، وفيه مواضع مشكلة فعلم ما في تلك المواضع بقدر الإمكان، يقال: فلان يعلم الكتاب الفلاني ويتقنه بقدر وسعه، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين، وكذلك القول في تعليم القرآن، أو تقول: لا يعلم تأويله إلا الله وأما غيره فلا يعلم من تلقاء نفسه مالم يعلم، فيكون إشارة إلى أن كتاب الله تعالى ليس كغيره من الكتب التي يستخرج ما فيها بقوة الذكاء والعلوم.

ثم قال تعالى: { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في وجه الترتيب وهو على وجهين أحدهما: ما ذكرنا أن المراد من علم علم الملائكة وتعليمه الملائكة قبل خلق الإنسان، فعلم تعالى ملائكته المقربين القرآن حقيقة يدل عليه قوله تعالى: { { إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَـٰبٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 77 ـ 79] ثم قال تعالى: { { تَنزِيلٌ مّن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الواقعة: 80] إشارة إلى تنزيله بعد تعليمه، وعلى هذا ففي النظم حسن زائد وذلك من حيث إنه تعالى ذكر أموراً علوية وأموراً سفلية، وكل علوي قابله بسفلي، وقدم العلويات على السفليات إلى آخر الآيات، فقال: { عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ } إشارة إلى تعليم العلويين، وقال: { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } إشارة إلى تعليم السفليين، وقال: { { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [الرحمـٰن: 5] في العلويات وقال في مقابلتهما من السفليات: { { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمٰن: 6].

ثم قال تعالى: { { وَٱلسَّمَاء رَفَعَهَا } [الرحمٰن: 7] وفي مقابلتها: { { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا } [الرحمٰن: 10]، وثانيهما: أن تقديم تعليم القرآن إشارة إلى كونه أتم نعمة وأعظم إنعاماً، ثم بين كيفية تعليم القرآن، فقال: { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } وهو كقول القائل: علمت فلاناً الأدب حملته عليه، وأنفقت عليه مالي، فقوله: حملته وأنفقت بيان لما تقدم، وإنما قدم ذلك لأنه الإنعام العظيم.

المسألة الثانية: ما الفرق بين هذه السورة وسورة العلق، حيث قال هناك: { { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1] ثم قال: { { وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ } [العلق: 3، 4] فقدم الخلق على التعليم؟ نقول: في تلك السورة لم يصرح بتعليم القرآن فهو كالتعليم الذي ذكره في هذه السورة بقوله: { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } بعد قوله: { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ }.

المسألة الثالثة: ما المراد من الإنسان؟ نقول: هو الجنس، وقيل: المراد محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد آدم والأول أصح نظراً إلى اللفظ في { خُلِقَ } ويدخل فيه محمد وآدم وغيرهما من الأنبياء.

المسألة الرابعة: ما البيان وكيف تعليمه؟ نقول: من المفسرين من قال: البيان المنطق فعلمه ما ينطق به ويفهم غيره ما عنده، فإن به يمتاز الإنسان عن غيره عن الحيوانات، وقوله: { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ } إشارة إلى تقدير خلق جسمه الخاص، و { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } إشارة إلى تميزه بالعلم عن غيره. وقد خرج ما ذكرنا أولاً أن البيان هو القرآن وأعاده ليفصل ماذكره إجمالاً بقوله تعالى: { عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ } كما قلنا في المثال حيث يقول القائل: علمت فلاناً الأدب حملته عليه، وعلى هذا فالبيان مصدر أريد به ما فيه المصدر، وإطلاق البيان بمعنى القرآن على القرآن في القرآن كثير، قال تعالى: { { هَـٰذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ } [آل عمران: 138] وقد سمى الله تعالى القرآن فرقاناً وبياناً والبيان فرقان بين الحق والباطل، فصح إطلاق البيان، وإرادة القرآن.

المسألة الخامسة: كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن نقول: أما إن قلنا: إن المراد من قوله علم القرآن هو أنه علم الإنسان القرآن، فنقول حذفه لعظم نعمة التعليم وقدم ذكره على من علمه وعلى بيان خلقه، ثم فصل بيان كيفية تعليم القرآن، فقال: { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ * عَلَّمَهُ } وقد بين ذلك، وأما إن قلنا: المراد { عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ } الملائكة فلأن المقصود تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه من التكذيب به، وتعليمه للملائكة لا يظهر للإنسان أنه فائدة راجعة إلى الإنسان وأما تعليم الإنسان فهي نعمة ظاهرة، فقال: { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } أي علم الإنسان تعديداً للنعم عليه ومثل هذا قال في: { ٱقْرَأْ } قال مرة: { عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ } من غير بيان المعلم، ثم قال مرة أخرى: { عَلَّمَ ٱلإِنسَـٰنَ ما لَمْ يَعْلَمْ } وهو البيان، ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله.