التفاسير

< >
عرض

ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ
١٤
-الواقعة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وهذا خبر بعد خبر، وفيه مسائل.

المسألة الأولى: قد ذكرت أن قوله: { وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ } [الواقعة: 10] جملة، وإنما كان الخبر عين المبتدأ لظهور حالهم أو لخفاء أمرهم على غيرهم، فكيف جاء خبر بعده؟ نقول: ذلك المقصود قد أفاد ذكر خبر آخر لمقصود آخر، كما أن واحداً يقول: زيد لا يخفى عليك حاله إشارة إلى كونه من المشهورين ثم يشرع في حال يخفى على السامع مع أنه قال: لا يخفى، لأن ذلك كالبيان كونه ليس من الغرباء كذلك ههنا قال: { وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ } لبيان عظمتهم ثم ذكر حال عددهم.

المسألة الثانية: { ٱلأَوَّلِينَ } من هم؟ نقول: المشهور أنهم من كان قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وإنما قال: { ثُلَّةٌ } والثلة الجماعة العظيمة، لأن من قبل نبينا من الرسل والأنبياء من كان من كبار أصحابهم إذا جمعوا يكونون أكثر بكثير من السابقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا قيل: إن الصحابة لما نزلت هذه الآية صعب عليهم قلتهم، فنزل بعده: { { ثُلَّةٌ مّنَ ٱلأَوَّلِينَ } [الواقعة: 13]، { { وَثُلَّةٌ مّنَ ٱلآخِرِينَ } [الواقعة: 40] هذا في غاية الضعف من وجوه أحدها: أن عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان، بالنسبة إلى من مضى في غاية القلة فماذا كان عليهم من إنعام الله على خلق كثير من الأولين وما هذا إلا خلف غير جائز وثانيها: أن هذا كالنسخ في الأخبار وأنه في غاية البعد ثالثها: ما ورد بعدها لا يرفع هذا لأن الثلة من الأولين هنا في السابقين من الأولين وهذا ظاهر لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم كثروا ورحمهم الله تعالى فعفا عنهم أموراً لم تعف عن غيرهم، وجعل للنبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة فكثر عدد الناجين وهم أصحاب اليمين، وأما من لم يأثم ولم يرتكب الكبيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهم في غاية القلة وهم السابقون ورابعها: هذا توهم وكان ينبغي أن يفرحوا بهذه الآية لأنه تعالى لما قال: { ثُلَّةٌ مّنَ ٱلأَوَّلِينَ } دخل فيهم الأول من الرسل والأنبياء، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا جعل قليلاً من أمته مع الرسل والأنبياء والأولياء الذين كانوا في درجة واحدة، يكون ذلك إنعاماً في حقهم ولعله إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" الوجه الثاني: المراد منه: { ٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلأَنْصَـٰرِ } [التوبة: 100] فإن أكثرهم لهم الدرجة العليا، لقوله تعالى: { { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ } [الحديد: 10] الآية. { وَقَلِيلٌ مّنَ ٱلآخِرِينَ } الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وعلى هذا فقوله: { { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَـٰثَةً } [الواقعة: 7] يكون خطاباً مع الموجودين وقت التنزيل، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا عليه السلام، وهذا ظاهر فإن الخطاب لا يتعلق إلا بالموجودين من حيث اللفظ، ويدخل فيه غيرهم بالدليل الوجه الثالث: { ثُلَّةٌ مّنَ ٱلأَوَّلِينَ } الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنفسهم { وَقَلِيلٌ مّنَ ٱلآخِرِينَ } الذين قال الله تعالى فيهم: { { وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذرياتهم } [الطور: 21] فالمؤمنون وذرياتهم إن كانوا من أصحاب اليمين فهم في الكثرة سواء، لأن كل صبي مات وأحد أبويه مؤمن فهو من أصحاب اليمين، وأما إن كانوا من المؤمنين السابقين، فقلما يدرك ولدهم درجة السابقين وكثيراً ما يكون ولد المؤمن أحسن حالاً من الأب لتقصير في أبيه ومعصية لم توجد في الابن الصغير وعلى هذا فقوله: { ٱلآخَرِينَ } المراد منه الآخرون التابعون من الصغار.