التفاسير

< >
عرض

إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ
١
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
٢
خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ
٣
-الواقعة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

أما تعلق هذه السورة بما قبلها، فذلك من وجوه أحدها: أن تلك السورة مشتملة على تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه عن التكذيب كما مر، وهذه السورة مشتملة على ذكر الجزاء بالخير لمن شكر وبالشر لمن كذب وكفر ثانيها: أن تلك السورة متضمنة للتنبيهات بذكر الآلاء في حق العباد، وهذه السورة كذلك لذكر الجزاء في حقهم يوم التناد ثالثها: أن تلك السورة سورة إظهار الرحمة وهذه السورة سورة إظهار الهيبة على عكس تلك السورة مع ما قبلها، وأما تعلق الأول بالآخر ففي آخر تلك السورة إشارة إلى الصفات من باب النفي والإثبات، وفي أول هذه السورة إلى القيامة وإلى ما فيها من المثوبات والعقوبات، وكل واحد منهما يدل على علو اسمه وعظمة شأنه، وكمال قدرته وعز سلطانه. ثم في الآية مسائل:

المسألة الأولى: ففي تفسيرها جملة وجوه أحدها: المراد إذا وقعت القيامة الواقعة أو الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد، ولا يتمكن أحد من إنكارها، ويبطل عناد المعاندين فتخفض الكافرين في دركات النار، وترفع المؤمنين في درجات الجنة، هؤلاء في الجحيم وهؤلاء في النعيم الثاني: { إذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } تزلزل الناس، فتخفض المرتفع، وترفع المنخفض، وعلى هذا فهي كقوله تعالى: { { فَجَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا } [الحجر: 74] في الإشارة إلى شدة الواقعة، لأن العذاب الذي جعل العالي سافلاً بالهدم، والسافل عالياً حتى صارت الأرض المنخفضة كالجبال الراسية، والجبال الراسية كالأرض المنخفضة أشد وأبلغ، فصارت البروج العالية مع الأرض متساوية، والواقعة التي تقع ترفع المنخفضة فتجعل من الأرض أجزاء عالية ومن السماء أجزاء سافلة، ويدل عليه قوله تعالى: { { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } [الواقعة: 4، 5] فإنه إشارة إلى أن الأرض تتحرك بحركة مزعجة، والجبال تتفتت، فتصير الأرض المنخفضة كالجبال الراسية، والجبال الشامخة كالأرض السافلة، كما يفعل هبوب الريح في الأرض المرملة الثالث: { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } يظهر وقوعها لكل أحد، وكيفية وقوعها، فلا يوجد لها كاذبة ولا متأول يظهر فقوله: { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } معطوف على { كَاذِبَةٌ } نسقاً، فيكون كما يقول القائل: ليس لي في الأمر شك ولا خطأ، أي لا قدرة لأحد على رفع المنخفض ولا خفض المرتفع.

المسألة الثانية: { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } يحتمل أن تكون الواقعة صفة لمحذوف وهي القيامة أو الزلزلة على ما بينا، ويحتمل أن يكون المحذوف شيئاً غير معين، وتكون تاء التأنيث مشيرة إلى شدة الأمر الواقع وهوله، كما يقال: كانت الكائنة والمراد كان الأمر كائناً ما كان، وقولنا: الأمر كائن لا يفيد إلا حدوث أمر ولو كان يسيراً بالنسبة إلى قوله: كانت الكائنة، إذ في الكائنة وصف زائد على نفس كونه شيئاً، ولنبين هذا ببيان كون الهاء للمبالغة في قولهم: فلان راوية ونسابة، وهو أنهم إذا أرادوا أن يأتوا بالمبالغة في كونه راوياً كان لهم أن يأتوا بوصف بعد الخبر ويقولون: فلان راو جيد أو حسن أو فاضل، فعدلوا عن التطويل إلى الإيجاز مع زيادة فائدة، فقالوا: نأتي بحرف نيابة عن كلمة كما أتينا بهاء التأنيث حيث قلنا: ظالمة بدل قول القائل: ظالم أنثى، ولهذا لزمهم بيان الأنثى عند مالا يمكن بيانها بالهاء في قولهم شاة أنثى وكالكتابة في الجمع حيث قلنا: قالوا بدلاً عن قول القائل: قال وقال وقال، وقالا بدلاً عن قوله: قال وقال فكذلك في المبالغة أرادوا أن يأتوا بحرف يغني عن كلمة والحرف الدال على الزيادة ينبغي أن يكون في الآخر، لأن الزيادة بعد أصل الشيء، فوضعوا الهاء عند عدم كونها للتأنيث والتوحيد في اللفظ المفرد لا في الجمع للمبالغة إذا ثبت هذا فنقول: في كانت الكائنة ووقعت الواقعة حصل هذا معنى لا لفظاً، أما معنى فلأنهم قصدوا بقولهم: كانت الكائنة أن الكائن زائد على أصل ما يكون، وأما لفظاً فلأن الهاء لو كانت للمبالغة لما جاز إثبات ضمير المؤنث في الفعل، بل كان ينبغي أن يقولوا: كان الكائنة ووقع الواقعة، ولا يمكن ذلك لأنا نقول: المراد به المبالغة.

المسألة الثالثة: العامل في { إِذَا } ماذا؟ نقول: فيه ثلاث أوجه أحدها: فعل متقدم يجعل إذا مفعولاً به لا ظرفاً وهو اذكر، كأنه قال: اذكر القيامة ثانيها: العامل فيها ليس لوقعتها كاذبة كما تقول: يوم الجمعة ليس لي شغل ثالثها: يخفض قوم ويرفع قوم، وقد دل عليه { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ }، وقيل: العامل فيها قوله: { { فَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ } [الواقعة: 8] أي في يوم وقوع الواقعة.

المسألة الرابعة: { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا } إشارة إلى أنها تقع دفعة واحدة فالوقعة للمرة الواحدة، وقوله: { كَاذِبَةٌ } يحتمل وجوهاً أحدها: كاذبة صفة لمحذوف أقيمت مقامه تقديره ليس لها نفس تكذب ثانيها: الهاء للمبالغة كما تقول في الواقعة وقد تقدم بيانه ثالثها: هي مصدر كالعاقبة فإن قلنا بالوجه الأول فاللام تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون للتعليل أي لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدة وقعتها كما يقال: لا كاذب عند الملك لضبطه الأمور فيكون نفياً عاماً بمعنى أن كل أحد يصدقه فيما يقول وقال: وقبله نفوس كواذب في أمور كثيرة ولا كاذب فيقول: لا قيامة لشدة وقعتها وظهور الأمر وكما يقال: لا يحتمل الأمر الإنكار لظهوره لكل أحد فيكون نفياً خاصاً بمعنى لا يكذب أحد فيقول: لا قيامة وقبله نفوس قائلة به كاذبة فيه ثانيهما: أن تكون للتعدية وذلك كما يقال: ليس لزيد ضارب، وحينئذ تقديره إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها امرؤ يوجد لها كاذب إن أخبر عنها فهي خافضة رافعة تخفض قوماً وترفع قوماً وعلى هذا لا تكون عاملاً في { إِذَا } وهو بمعنى ليس لها كاذب يقول: هي أمر سهل يطاق يقال لمن يقدم على أمر عظيم ظاناً أنه يطيقه سل نفسك أي سهلت الأمر عليك وليس بسهل، وإن قلنا بالوجه الثاني وهو المبالغة ففيه وجهان أحدهما: ليس لها كاذب عظيم بمعنى أن من يكذب ويقدم على الكذب العظيم لا يمكنه أن يكذب لهول ذلك اليوم وثانيهما: أن أحداً لو كذب وقال في ذلك اليوم لا قيامة ولا واقعة لكان كاذباً عظيماً ولا كاذب لهذه العظمة في ذلك اليوم والأول أدل على هول اليوم، وعلى الوجه الثالث يعود ما ذكرنا إلى أنه لا كاذب في ذلك اليوم بل كل أحد يصدقه.

المسألة الخامسة: { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } تقديره هي خافضة رافعة وقد سبق ذكره في التفسير الجملي وفيه وجوه أخرى أحدها: خافضة رافعة صفتان للنفس الكاذبة أي ليس لوقعتها من يكذب ولا من يغير الكلام فتخفض أمراً وترفع آخر فهي خافضة أو يكون هو زيادة لبيان صدق الخلق في ذلك اليوم وعدم إمكان كذبهم والكاذب يغير الكلام، ثم إذا أراد نفي الكذب عن نفسه يقول ما عرفت مما كان كلمة واحدة وربما يقول ما عرفت حرفاً واحداً، وهذا لأن الكاذب قد يكذب في حقيقة الأمر وربما يكذب في صفة من صفاته والصفة قد يكون ملتفتاً إليها وقد لا يكون ملتفتاً إليها التفاتاً معتبراً وقد لا يكون ملتفتاً إليها أصلاً مثال الأول: قول القائل: ما جاء زيد ويكون قد جاء ومثال الثاني: ما جاء يوم الجمعة ومثال الثالث: ما جاء بكرة يوم الجمعة ويكون قد جاء بكرة يوم الجمعة وما جاء أول بكرة يوم الجمعة والثاني دون الأول والرابع دون الكل، فإذا قال القائل: ما أعرف كلمة كاذبة نفى عنه الكذب في الإخبار وفي صفته والذي يقول: ما عرفت حرفاً واحداً نفى أمراً وراءه، والذي يقول: ما عرفت أعرافة واحدة يكون فوق ذلك فقوله: { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي من يغير تغييراً ولو كان يسيراً.