التفاسير

< >
عرض

إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ
٤٥
وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ
٤٦
وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
٤٧
أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ
٤٨
-الواقعة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفي الآيات لطائف، نذكرها في مسائل:

المسألة الأولى: ما الحكمة في بيان سبب كونهم في العذاب مع أنه تعالى لم يذكر سبب كون أصحاب اليمين في النعيم، ولم يقل: إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين؟ فنقول: قد ذكرنا مراراً أن الله تعالى عند إيصال الثواب لا يذكر أعمال العباد الصالحة، وعند إيصال العقاب يذكر أعمال المسيئين لأن الثواب فضل والعقاب عدل، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص وظلم، وأما العدل فإن لم يعلم سبب العقاب، يظن أن هناك ظلماً فقال: هم فيها بسبب ترفهم، والذي يؤيد هذه اللطيفة أن الله تعالى قال في حق السابقين: { { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الواقعة: 24] ولم يقل: في حق أصحاب اليمين، ذلك لأنا أشرنا أن أصحاب اليمين هم الناجون بالفضل العظيم، وسنبين ذلك في قوله تعالى: { { فَسَلَـٰمٌ لَّكَ } [الواقعة: 91] وإذا كان كذلك فالفضل في حقهم متمحض فقال: هذه النعم لكم، ولم يقل جزاء لأن قوله: { جَزَاء } في مثل هذا الموضع، وهو موضع العفو عنهم لا يثبت لهم سروراً بخلاف من كثرت حسناته، فيقال له: نعم ما فعلت خذ هذا لك جزاء.

المسألة الثانية: جعل السبب كونهم مترفين وليس كل من هو من أصحاب الشمال يكون مترفاً فإن فيهم من يكون فقيراً؟ نقول قوله تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } ليس بذم، فإن المترف هو الذي جعل ذا ترف أي نعمة، فظاهر ذلك لا يوجب ذماً، لكن ذلك يبين قبح ما ذكر عنهم بعده وهو قوله تعالى: { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ } لأن صدور الكفران ممن عليه غاية الإنعام أقبح القبائح فقال: إنهم كانوا مترفين، ولم يشكروا نعم الله بل أصروا على الذنب وعلى هذا فنقول: النعم التي تقتضي شكر الله وعبادته في كل أحد كثيرة فإن الخلق والرزق وما يحتاج إليه وتتوقف مصالحه عليه حاصل للكل، غاية ما في الباب أن حال الناس في الإتراف متقارب، فيقال في حقل البعض بالنسبة إلى بعض: إنه في ضر، ولو حمل نفسه على القناعة لكان أغنى الأغنياء وكيف لا والإنسان إذا نظر إلى حالة يجدها مفتقرة إلى مسكن يأوي إليه ولباس الحر والبرد وما يسد جوعه من المأكول والمشروب، وغير هذا من الفضلات التي يحمل عليها شح النفس، ثم إن أحداً لا يغلب عن تحصيل مسكن باشتراء أو اكتراء، فإن لم يكن فليس هو أعجز من الحشرات، لا تفقد مدخلاً أو مغارة، وأما اللباس فلو اقتنع بما يدفع الضرورة كان يكفيه في عمره لباس واحد، كلما تمزق منه موضع يرقعه من أي شيء كان، بقي أمر المأكول والمشروب، فإذا نظر الناظر يجد كل أحد في جميع الأحوال غير مغلوب عن كسرة خبز وشربة ماء، غير أن طلب الغنى يورث الفقر فيريد الإنسان بيتاً مزخرفاً ولباساً فاخراً ومأكولاً طيباً، وغير ذلك من أنواع الدواب والثياب، فيفتقر إلى أن يحمل المشاق، وطلب الغنى يورث فقره، وارتياد الارتفاع يحط قدره، وبالجملة شهوة بطنه وفرجه تكسر ظهره على أننا نقول في قوله تعالى: { كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } لا شك أن أهل القبور لما فقدوا الأيدي الباطشة، والأعين الباصرة، وبان لهم الحقائق، علموا أنهم كانوا قبلو ذلك مترفين بالنسبة إلى تلك الحالة.

المسألة الثالثة: ما الإصرار على الحنث العظيم؟ نقول: الشرك، كما قال تعالى: { { إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13] وفيها لطيفة وهي أنه أشار في الآيات الثلاث إلى الأصول الثلاثة فقوله تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } من حيث الاستعمال يدل على ذمهم بإنكار الرسل، إذ المترف متكبر بسبب الغنى فينكر الرسالة، والمترفون كانوا يقولون: { { أَبَشَرٌ مّنَّا وٰحِداً نَّتَّبِعُهُ } [القمر: 34] وقوله: { يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } [الواقعة: 46] إشارة إلى الشرك ومخالفة التوحيد، وقوله تعالى: { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } إشارة إلى إنكار الحشر والنشر، وقوله تعالى: { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } فيه مبالغات من وجوه أحدها: قوله تعالى: { كَانُواْ يُصِرُّونَ } وهو آكد من قول القائل: إنهم قبل ذلك أصروا لأن اجتماع لفظي الماضي والمستقبل يدل على الاستمرار، لأن قولنا: فلان كان يحسن إلى الناس، يفيد كون ذلك عادة له ثانيها: لفظ الإصرار فإن الإصرار مداومة المعصية والغلول، ولا يقال: في الخير أصر ثالثها: الحنث فإنه فوق الذنب فإن الحنث لا يكاد في اللغة يقع على الصغيرة والذنب يقع عليها، وأما الحنث في اليمين فاستعملوه لأن نفس الكذب عند العقلاء قبيح، فإن مصلحة العالم منوطة بالصدق وإلا لم يحصل لأحد بقول أحد ثقة فلا يبنى على كلامه مصالح، ولا يجتنب عن مفاسد، ثم إن الكذب لما وجد في كثير من الناس لأغراض فاسدة أرادوا توكيد الأمر بضم شيء إليه يدفع توهمه فضموا إليه الأيمان ولا شيء فوقها، فإذا حنث لم يبق أمر يفيد الثقة فيلزم منه فساد فوق فساد الزنا والشرب، غير أن اليمين إذا كانت على أمر مستقبل ورأى الحالف غيره جوز الشرع الحنث ولم يجوزه في الكبيرة كالزنا والقتل لكثرة وقوع الأيمان وقلة وقوع القتل والذي يدل على أن الحنث هو الكبيرة قولهم للبالغ: بلغ الحنث، أي بلغ مبلغاً بحيث يرتكب الكبيرة وقبله ما كان ينفي عنه الصغيرة، لأن الولي مأمور بالمعاقبة على إساءة الأدب وترك الصلاة.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: { ٱلْعَظِيمِ } هذا يفيد أن المراد الشرك، فإن هذه الأمور لا تجتمع في غيره.

المسألة الخامسة: كيف اشتهر { مِتْنَا } بكسر الميم مع أن استعمال القرآن في المستقبل يموت قال تعالى عن يحيـى وعيسى عليهما السلام: { { وَيَوْمَ أَمُوتُ } [مريم: 33] ولم يقرأ أمات على وزن أخاف، وقال تعالى: { { قُلْ مُوتُواْ } [آل عمران: 119] ولم يقل: قل ماتوا، وقال تعالى: { { وَلاَ تَمُوتُنَّ } [آل عمران: 102] ولم يقل: ولا تماتوا كما قال: { { ألا تَخَافُواْ } [فصلت: 30] أقلنا: فيه وجهان أحدهما: أن هذه الكلمة خالفت غيرها، فقيل فيها: { أَموت } والسماع مقدم على القياس والثاني: مات يمات لغة في مات يموت، فاستعمل ما فيها الكسر لأن الكسر في الماضي يوجد أكثر الأمرين أحدهما: كثرة يفعل على يفعل وثانيهما: كونه على فعل يفعل، مثل خاف يخاف، وفي مستقبلها الضم لأنه يوجد لسببين أحدهما: كون الفعل على فعل يفعل، مثل طال يطول، فإن وصفه بالتطويل دون الطائل يدل على أنه من باب قصر يقصر، وثانيهما: كونه على فعل يفعل، تقول: فعلت في الماضي بالكسر وفي المستقبل بالضم.

المسألة السادسة: كيف أتى باللام المؤكدة في قوله: { لَمَبْعُوثُونَ } مع أن المراد هو النفي وفي النفي لا يذكر في خبر إن اللام يقال: إن زيداً ليجيء وإن زيداً لا يجيء، فلا تذكر اللام، وما مرادهم بالاستفهام إلا الإنكار بمعنى إنا لا نبعث؟ نقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: عند إرادة التصريح بالنفي يوجد التصريح بالنفي وصيغته ثانيهما: أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار ونحن نستكثر مبالغته وتأكيده فحكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم فقالوا أولاً: { أَءِذَا مِتْنَا } ولم يقتصروا عليه بل قالوا بعده: { وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـٰماً } أي فطال عهدنا بعد كوننا أمواتاً حتى صارت اللحوم تراباً والعظام رفاتاً، ثم زادوا وقالوا: مع هذا يقال لنا: { إِنَّكُمْ لَمَبْعُوثُونَ } بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه أحدها: استعمال كلمة إن ثانيها: إثبات اللام في خبرها ثالثها: ترك صيغة الاستقبال، والإتيان بالمفعول كأنه كائن، فقالوا لنا: { إِنَّكُمْ لَمَبْعُوثُونَ } ثم زادوا وقالوا: { أَوَ ءَابَاؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } يعني هذا أبعد فإنا إذا كنا تراباً بعد موتنا والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات فكيف يمكن البعث؟ وقد بينا في سورة والصافات هذا كله وقلنا: إن قوله: { { أَوَ ءَابَاؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } [الصافات: 17] معناه: أو يقولوا: آباؤنا الأولون، إشارة إلى أنهم في الإشكال أعظم، ثم إن الله تعالى أجابهم ورد عليهم في الجواب في كل مبالغة بمبالغة أخرى فقال: