التفاسير

< >
عرض

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
٦٠
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٦١
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ
٦٢
-الواقعة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفيه مسائل.

المسألة الأولى: في الترتيب فيه وجهان أحدهما: أنه تقرير لما سبق وهو كقوله تعالى: { { ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ } [الملك: 2] فقال: { { نَحْنُ خَلَقْنَـٰكُمْ } [الواقعة: 57] ثم قال: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } فمن قدر على الإحياء والإماتة وهما ضدان ثبت كونه مختاراً فيمكن الإحياء ثانياً منه بعد الإماتة بخلاف ما لو كان الإحياء منه ولم يكن له قدرة على الإماتة فيظن به أنه موجب لا مختار، والموجب لا يقدر على كل شيء ممكن فقال: نحن خلقناكم وقدرنا الموت بينكم فانظروا فيه واعلموا أنا قادرون أن ننشئكم، ثانيهما: أنه جواب عن قول مبطل يقول: إن لم تكن الحياة والموت بأمور طبيعية في الأجسام من حرارات ورطوبات إذا توفرت بقيت حية، وإذا نقصت وفنيت ماتت لم يقع الموت وكيف يليق بالحكيم أن يخلق شيئاً يتقن خلقه ويحسن صورته ثم يفسده ويعدمه ثم يعيده وينشئه، فقال تعالى: نحن قدرنا الموت، ولا يرد قولكم: لماذا أعدم ولماذا أنشأ، ولماذا هدم، لأن كمال القدرة يقتضي ذلك وإنما يقبح من الصائغ والباني صياغة شيء وبناؤه وكسره وإفناؤه لأنه يحتاج إلى صرف زمان إليه وتحمل مشقة وما مثله إلا مثل إنسان ينظر إلى شيء فيقطع نظره عنه طرفة عين، ثم يعاوده ولا يقال له: لم قطعت النظر ولم نظرت إليه، ولله المثل الأعلى من هذا، لأن هنا لا بد من حركة وزمان ولو توارد على الإنسان أمثاله لتعب لكن في المرة الواحدة لا يثبت التعب والله تعالى منزه عن التعب ولا افتقار لفعله إلى زمان ولا زمان لفعله ولا إلى حركة بجرم، وفيه وجه آخر ألطف منها، وهو أن قوله تعالى: { { أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } [الواقعة: 58] معناه أفرأيتم ذلك ميتاً لا حياة فيه وهو مني، ولو تفكرتم فيه لعلمتم أنه كان قبل ذلك حياً متصلاً بحي وكان أجزاء مدركة متألمة متلذذة ثم إذا أمنيتموه لا تستريبون في كونه ميتاً كالجمادات، ثم إن الله تعالى يخلقه آدمياً ويجعله بشراً سوياً فالنطفة كانت قبل الانفصال حية، ثم صارت ميتة ثم أحياها الله تعالى مرة أخرى فاعلموا أنما إذا خلقناكم أولاً ثم قدرنا بينكم الموت ثانياً ثم ننشئكم مرة أخرى فلا تستبعدوا ذلك كما في النطف.

المسألة الثانية: ما الفرق بين هذا الموضع وبين أول سورة تبارك حيث قال هناك: { { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ } [الملك: 2] بتقديم ذكر الموت؟ نقول: الكلام هنا على الترتيب الأصلي كما قال تعالى في مواضع منها قوله تعالى: { { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مّن طِينٍ } [المؤمنون: 12] ثم قال بعد ذلك: { { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيّتُونَ } [المؤمنون: 15] وأما في سورة الملك فنذكر إن شاء الله تعالى فائدتها ومرجعها إلى ما ذكرنا أنه قال: خلق الموت في النطف بعد كونها حية عند الاتصال ثم خلق الحياة فيها بعد الموت وهو دليل الحشر، وقيل: المراد من الموت هنا الموت الذي بعد الحياة، والمراد هناك الذي قبل الحياة.

المسألة الثالثة: قال ههنا: { نَحْنُ قَدَّرْنَا } وقال في سورة الملك: { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ } فذكر الموت والحياة بلفظ الخلق، وههنا قال: { خَلَقْنَـٰكُمْ } وقال: { قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } فنقول: كان المراد هناك بيان كون الموت والحياة مخلوقين مطلقاً لا في الناس على الخصوص، وهنا لما قال: { { خَلَقْنَـٰكُمْ } [الواقعة: 57] خصصهم بالذكر فصار كأنه قال: خلقنا حياتكم، فلو قال: نحن قدرنا موتكم، كان ينبغي أنه يوجد موتهم في الحال ولم يكن كذلك، ولهذا قال: { قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ } وأما هناك فالموت والحياة كانا مخلوقين في محلين ولم يكن ذلك بالنسبة إلى بعض مخصوص.

المسألة الرابعة: هل في قوله تعالى: { بَيْنَكُمْ } بدلاً عن غيره من الألفاظ فائدة؟ نقول: نعم فائدة جليلة، وهي تبين بالنظر إلى الألفاظ التي تقوم مقامها فنقول: قدرنا لكم الموت، وقدرنا فيكم الموت، فقوله: قدرنا فيكم يفيد معنى الخلق لأن تقدير الشيء في الشيء يستدعي كونه ظرفاً له إما ظرف حصول فيه أو ظرف حلول فيه كما يقال: البياض في الجسم والكحل في العين، فلو قال: قدرنا فيكم الموت لكان مخلوقاً فينا وليس كذلك، وإن قلنا: قدرنا لكم الموت كان ذلك ينبىء عن تأخره عن الناس فإن القائل إذا قال: هذا معد لك كان معناه أنه اليوم لغيرك وغداً لك، كما قال تعالى: { { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [آل عمران: 140].

المسألة الخامسة: قوله: { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } المشهور أن المراد منه: وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم، يقال: فاته الشيء إذا غلبه ولم يقدر عليه ومثله سبقه وعلى هذا نعيد ما ذكرناه من الترتيب، ونقول: إذا كان قوله: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ } لبيان أنه خلق الحياة وقدر الموت، وهما ضدان وخالق الضدين يكون قادراً مختاراً فقال: { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } عاجزين عن الشيء بخلاف الموجب الذي لا يمكنه من إيقاع كل واحد من الضدين فيسبقه ويفوته، فإن النار لا يمكنها التبريد لأن طبيعتها موجبة للتسخين، وأما إن قلنا بأنه ذكره رداً عليهم حيث قالوا: لو لم يكن الموت من فناء الرطوبات الأصلية وانطفاء الحرارة الغريزية وكان بخلق حكيم مختار ما كان يجوز وقوعه لأن الحكيم كيف يبني ويهدم ويوجد ويعدم فقال: { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي عاجزين بوجه من الوجوه التي يستبعدونها من البناء والصائغ فإنه يفتقر في الإيجاد إلى زمان ومكان وتمكين من المفعول وإمكان ويلحقه تعب من تحريك وإسكان والله تعالى يخلق بكن فيكون، فهو فوق ما ذكرنا من المثل من قطع النظر وإعادته في أسرع حين حيث لا يصح من القائل أن يقول: لم قطعت النظر في ذلك الزمان اللطيف الذي لا يدرك ولا يحس بل ربما يكون مدعى القدرة التامة على الشيء في الزمان اليسير بالحركة السريعة يأتي بشيء ثم يبطله ثم يأتي بمثله ثم يبطله يدلك عليه فعل أصحاب خفة اليد، حيث يوهم أنه يفعل شيئاً ثم يبطله، ثم يأتي بمثله إراءة من نفسه القدرة، وعلى هذا فنقول قوله في سورة تبارك: { { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ } [الملك: 2] معناه أمات وأحيا لتعلموا أنه فاعل مختار، فتعبدونه وتعتقدون الثواب والعقاب فيحسن عملكم ولو اعتقدتموه موجباً لما عملتم شيئاً على هذا التفسير المشهور، والظاهر أن المراد من قوله: { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } حقيقته وهي أنا ما سبقنا وهو يحتمل شيئين أحدهما: أن يكون معناه أنه هو الأول لم يكن قبله شيء وثانيهما: في خلق الناس وتقدير الموت فيهم ما سبق وهو على طريقة منع آخر وفيه فائدتان أما إذا قلنا: { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } معناه ما سبقنا شيء فهو إشارة إلى أنكم من أي وجه تسلكون طريق النظر تنتهون إلى الله وتقفون عنده ولا تجاوزونه، فإنكم إن كنتم تقولون: قبل النطفة أب وقبل الأب نطفة فالعقل يحكم بانتهاء النطف والآباء إلى خالق غير مخلوق، وأنا ذلك فإني لست بمسبوق وليس هناك خالق ولا سابق غيري، وهذا يكون على طريقة التدرج والنزول من مقام إلى مقام، والعاقل الذي هداه الله تعالى الهداية القوية يعرف أولاً والذي دونه يعرف بعد ذلك برتبة، والمعاند لا بد من أن يعرف إن عاد إلى عقله بعد المراتب، ويقول: لا بد للكل من إله، وهو ليس بمسبوق فيما فعله، فمعناه أنه فعل ما فعل، ولم يكن لمفعوله مثال، وأما إن قلنا: إنه ليس بمسبوق، وأي حاجة في إعادته له بمثال هو أهون فيكون كقوله تعالى: { { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27] ويؤيده قوله تعالى: { عَلَىٰ أَن نُّبَدّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لا تَعْلَمُونَ } فإن قيل: هذا لا يصح، لأن مثل هذا ورد في سؤال سائل، والمراد ما ذكرنا كأنه قال: وإنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وما نحن بمسبوقين، أي لسنا بعاجزين مغلوبين فهذا دليلنا، وذلك لأن قوله تعالى: { إِنَّا لَقَـٰدِرُونَ } أفاد فائدة انتفاء العجز عنه، فلا بد من أن يكون لقوله تعالى: { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } فائدة ظاهرة، ثم قال تعالى: { عَلَىٰ أَن نُّبَدّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ } في الوجه المشهور، قوله تعالى: { عَلَىٰ أَن نُّبَدّلَ } يتعلق بقوله: { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي على التبديل، ومعناه وما نحن عاجزين عن التبديل.

والتحقيق في هذا الوجه أن من سبقه الشيء كأنه غلبه فعجز عنه، وكلمة على في هذا الوجه مأخوذة من استعمال لفظ المسابقة فإنه يكون على شيء، فإن من سبق غيره على أمر فهو الغالب، وعلى الوجه الآخر يتعلق بقوله تعالى: { نَحْنُ قَدَّرْنَا } وتقديره: نحن قدرنا بينكم على وجه التبديل لا على وجه قطع النسل من أول الأمر، كما يقول القائل: خرج فلان على أن يرجع عاجلاً، أي على هذا الوجه خرج، وتعلق كلمة على هذا الوجه أظهر، فإن قيل: على ما ذهب إليه المفسرون لا إشكال في تبديل أمثالكم، أي أشكالكم وأوصافكم، ويكون الأمثال جمع مثل، ويكون معناه وما نحن بعاجزين على أن نمسخكم، ونجعلكم في صورة قردة وخنازير، فيكون كقوله تعالى: { { وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَـٰهُمْ عَلَىٰ مَكَــٰنَتِهِمْ } [يس: 67] وعلى ما قلت في تفسير المسبوقين، وجعلت المتعلق لقوله: { عَلَىٰ أَن نُّبَدّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ } هو قوله: { نَحْنُ قَدَّرْنَا } فيكون قوله: { نُّبَدّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ } معناه على أن نبدل أمثالهم لا على عملهم، نقول: هذا إيراد وارد على المفسرين بأسرهم إذا فسروا الأمثال بجمع المثل، وهو الظاهر كما في قوله تعالى: { { ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم } [محمد: 38] وقوله: { { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَـٰلَهُمْ تَبْدِيلاً } [الإنسان: 28] فإن قوله: { إِذَا } دليل الوقوع، وتغير أوصافهم بالمسخ ليس أمراً يقع والجواب أن يقال: الأمثال إما أن يكون جمع مثل، وإما جمع مثل، فإن كان جمع مثل فنقول معناه قدرنا بينكم الموت على هذا الوجه، وهو أن نغير أوصافكم فتكونوا أطفالاً، ثم شباناً، ثم كهولاً، ثم شيوخاً، ثم يدرككم الأجل، وما قدرنا بينكم الموت على أن نهلككم دفعة واحدة إلا إذا جاء وقت ذلك فتهلكون بنفخة واحدة وإن قلنا: هو جمع مثل فنقول معنى: { نُّبَدّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ } نجعل أمثالكم بدلاً وبدله بمعنى جعله بدلاً، ولم يحسن أن يقال: بدلناكم على هذا الوجه، لأنه يفيد أنا جعلنا بدلاً فلا يدل على وقوع الفناه عليهم، غاية ما في الباب أن قول القائل: جعلت كذا بدلاً لا تتم فائدته إلا إذا قال: جعلته بدلاً عن كذا لكنه تعالى لما قال: { نُّبَدّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ } فالمثل يدل على المثل، فكأنه قال: جعلنا أمثالكم بدلاً لكم، ومعناه على ما ذكرنا أنه لم نقدر الموت على أن نفني الخلق دفعة بل قدرناه على أن نجعل مثلهم بدلهم مدة طويلة ثم نهلكهم جميعاً ثم ننشئهم، وقوله تعالى: { فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ } على الوجه المشهور في التفسير أنه فيما لا تعلمون من الأوصاف والأخلاق، والظاهر أن المراد: { فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ } من الأوصاف والزمان، فإن أحداً لا يدري أنه متى يموت ومتى ينشأ أو كأنهم قالوا: ومتى الساعة والإنشاء؟ فقال: لا علم لكم بهما، هذا إذا قلنا: إن المراد ما ذكر فيه على الوجه المشهور وفيه لطيفة: وهي أن قوله: { فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ } تقرير لقوله: { { أأنتم تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَـٰلِقُونَ } [الواقعة: 59] وكأنه قال: كيف يمكن أن تقولوا هذا وأنتم تنشأون في بطون أمهاتكم على أوصاف لا تعلمون وكيف يكون خالق الشيء غير عالم به؟ وهو كقوله تعالى: { { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ } [النجم: 32] وعلى ما ذكرنا فيه فائدة وهي التحريض على العمل الصالح، لأن التبديل والإنشاء وهو الموت والحشر إذا كان واقعاً في زمان لا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة، وقال تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأولَىٰ } تقريراً لإمكان النشأة الثانية.