التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
١٦
-الحديد

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ الحسن: (ألما يأن)، قال ابن جني: أصل لما لم، ثم زيد عليها ما فلم نفي لقوله أفعل، ولما نفي لقوله قد يفعل، وذلك لأنه لما زيد في الإثبات قد لا جرم زيد في نفيه ما، إلا أنهم لما ركبوا لم مع ما حدث لها معنى ولفظ، أما المعنى فإنها صارت في بعض المواضع ظرفاً، فقالوا: لما قمت قام زيد، أي وقت قيامك قام زيد، وأما اللفظ فإنه يجوز أن تقف عليها دون مجزومها، فيجوز أن تقول: جئت ولما، أي ولما يجيء، ولا يجوز أن يقول: جئت ولم.

وأما الذين قرأوا: { أَلَمْ يَأْنِ } فالمشهور ألم يأن من أنى الأمر يأني إذا جاء إناء أتاه أي وقته. وقرىء: (ألم يئن)، من أن يئين بمعنى أنى يأني.

المسألة الثانية: اختلفوا في قوله: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } فقال بعضهم: نزل في المنافقين الذين أظهروا الإيمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع، والقائلون بهذا القول لعلهم ذهبوا إلى أن المؤمن لا يكون مؤمناً في الحقيقة إلا مع خشوع القلب، فلا يجوز أن يقول تعالى ذلك إلا لمن ليس بمؤمن، وقال آخرون: بل المراد من هو مؤمن على الحقيقة، لكن المؤمن قد يكون له خشوع وخشية، وقد لا يكون كذلك، ثم على هذا القول تحتمل الآية وجوهاً أحدها: لعل طائفة من المؤمنين ما كان فيهم مزيد خشوع ولا رقة، فحثوا عليه بهذه الآية وثانيها: لعل قوماً كان فيهم خشوع كثير، ثم زال منهم شدة ذلك الخشوع فحثوا على المعاودة إليها، عن الأعمش قال: إن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا ليناً في العيش ورفاهية، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية وعن أبي بكر: أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب، وأما قوله: { لِذِكْرِ ٱللَّهِ } ففيه قولان: الأول: أن تقدير الآية، أما حان للمؤمنين أن ترق قلوبهم لذكر الله، أي مواعظ الله التي ذكرها في القرآن، وعلى هذا الذكر مصدر أضيف إلى الفاعل والقول الثاني: أن الذكر مضاف إلى المفعول، والمعنى لذكرهم الله، أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعاً، ولا يكونوا كمن ذكره بالغفلة فلا يخشع قلبه للذكر، وقوله تعالى: { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقّ } فيه مسائل:

المسألة الأولى: (ما) في موضع جر بالعطف على الذكر وهو موصول، والعائد إليه محذوف على تقدير وما نزل من الحق، ثم قال ابن عباس في قوله: { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقّ } يعني القرآن.

المسألة الثانية: قال أبو علي: قرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم، { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقّ } خفيفة، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم، { وَمَا نَزَلَ }، مشددة، وعن أبي عمرو { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقّ } مرتفعة النون مكسورة الزاي، والتقدير في القراءة الأولى: أن تخشع قلوبهم لذكر الله ولما نزل من الحق، وفي القراءة الثانية ولما نزله الله من الحق، وفي القراءة الثالثة ولما نزل من الحق.

المسألة الثالثة: يحتمل أن يكون المراد من الحق هو القرآن لأنه جامع للوصفين الذكر والموعظة وإنه حق نازل من السماء، ويحتمل أن يكون المراد من الذكر هو ذكر الله مطلقاً، والمراد بما نزل من الحق هو القرآن، وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن، لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله، فأما حصولها عند سماع القرآن فذاك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله، ثم قال تعالى: { وَلاَ يَكُونُواْ } قال الفراء: هو في موضع نصب معناه: ألم يأن أن تخشع قلوبهم، وأن لا يكونوا، قال: ولو كان جزماً على النهي كان صواباً، ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء على سبيل الالتفات، ثم قال: { كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلُ } يريد اليهود والنصارى: { فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ } وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: ذكروا في تفسير طول الأمد وجوهاً أحدها: طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وثانيها: قال ابن عباس: مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله وثالثها: طالت أعمارهم في الغفلة فحصلت القسوة في قلوبهم بذلك السبب ورابعها: قال: ابن حبان: الأمد ههنا الأمل البعيد، والمعنى على هذا طال عليهم الأمد بطول الأمل، أي لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم وخامسها: قال مقاتل بن سليمان: طال عليهم أمد خروج النبي عليه السلام وسادسها: طال عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما عن قلوبهم فلا جرم قست قلوبهم، فكأنه تعالى نهى المؤمنين عن أن يكونوا كذلك، قاله القرظي.

المسألة الثانية: قرىء (الأمد) بالتشديد، أي الوقت الأطول، ثم قال: { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ } أي خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين، وكأنه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر.