التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٢٧
-الحديد

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

قوله تعالى: { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَءاتَيْنَـٰهُ ٱلإنجِيلَ }.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: معنى قفاه أتبعه بعد أن مضى، والمراد أنه تعالى أرسل بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه السلام فأرسله الله تعالى بعدهم وآتاه الإنجيل.

المسألة الثانية: قال ابن جني قرأ الحسن: { وآتيناه الأنجيل } بفتح الهمزة، ثم قال: هذا مثال لا نظير له، لأن أفعيل وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته، لأنه يستخرج به الأحكام، والتوراة فوعلة من ورى الزند يرى إذا أخرج النار، ومثله الفرقان وهو فعلان من فرقت بين الشيئين، فعلى هذا لا يجوز فتح الهمزة لأنه لا نظير له، وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع وله وجهان أحدهما: أنه شاذ كما حكى بعضهم في البرطيل وثانيهما: أنه ظن الإنجيل أعجمياً فحرف مثاله تنبيهاً على كونه أعجمياً.

قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق لله تعالى وكسب للعبد، قالوا: لأنه تعالى حكم بأن هذه الأشياء مجعولة لله تعالى، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية، قال القاضي: المراد بذلك أنه تعالى لطف بهم حتى قويت دواعيهم إلى الرهبانية، التي هي تحمل الكلفة الزائدة على ما يجب من الخلوة واللباس الخشن والجواب: أن هذا ترك للظاهر من غير دليل، على أنا وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا أيضاً، وذلك لأن حال الاستواء يمتنع حصول الرجحان وإلا فقد حصل الرجحان عند الاستواء والجمع بينهما متناقض، وإذا كان الحصول عند الاستواء ممتنعاً، كان عند المرجوحية أولى أن يصير ممتنعاً، وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض.

المسألة الثانية: قال مقاتل: المراد من الرأفة والرحمة هو أنهم كانوا متوادين بعضهم مع بعض، كما وصف الله أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام بذلك في قوله: { { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29].

المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: قرىء (رآفة) على فعالة.

المسألة الرابعة: الرهبانية معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب، كخشيان من خشي، وقرىء: (ورهبانية) بالضم كأنها نسبة إلى الرهبان، وهو جمع راهب كراكب وركبان، والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة ومتحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن، والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف، عن ابن عباس أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام غير الملوك التوراة والإنجيل، فساح قوم في الأرض ولبسوا الصوف، وروى ابن مسعود أنه عليه السلام، قال: "يا ابن مسعود: أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة، كلها في النار إلا ثلاث فرق، فرقة آمنت بعيسى عليه السلام، وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين، فلبس العباء، وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله: { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً } إلى آخر الآية" .

المسألة الخامسة: لم يعن الله تعالى بابتدعوها طريقة الذم، بل المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها، ولذلك قال تعالى بعده: { مَا كَتَبْنَـٰهَا عَلَيْهِمْ }.

المسألة السادسة: { رهبانية } منصوبة بفعل مضمر، يفسره الظاهر، تقديره: ابتدعوا رهبانية ابتدعوها، وقال أبو علي الفارسي: الرهبانية لا يستقيم حملها على { جَعَلْنَا }، لأن ما يبتدعونه هم لا يجوز أن يكون مجعولاً لله تعالى، وأقول: هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين، ومن أين يليق بأبي على أن يخوض في أمثال هذه الأشياء.

ثم قال تعالى: { مَا كَتَبْنَـٰهَا عَلَيْهِمْ } أي لم نفرضها نحن عليهم.

أما قوله: { إِلاَّ ٱبْتِغَاء رِضْوٰنِ ٱللَّهِ } ففيه قولان: أحدهما: أنه استثناء منقطع. أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله الثاني: أنه استثناء متصل، والمعنى أنا ما تعبدناهم بها إلا على وجه ابتغاء مرضاة الله تعالى، والمراد أنها ليست واجبة، فإن المقصود من فعل الواجب، دفع العقاب وتحصيل رضا الله، أما المندوب فليس المقصود من فعله دفع العقاب، بل المقصود منه ليس إلا تحصيل مرضاة الله تعالى.

أما قوله تعالى: { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَـئَاتَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ } ففيه أقوال: أحدها: أن هؤلاء الذين ابتدعوا هذه الرهبانية ما رعوها حق رعايتها، بل ضموا إليها التثليث والاتحاد، وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام فآمنوا به فهو قوله: { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون }، وثانيها: أنا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلا ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال، لكن لا لهذا الوجه، بل لوجه آخر، وهو طلب الدنيا والرياء والسمعة وثالثها: أنا لما كتبناها عليهم تركوها، فيكون ذلك ذماً لهم من حيث إنهم تركوا الواجب ورابعها: أن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا به، وقوله: { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } أي الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون يعني الذين لم يؤمنوا به، ويدل على هذا ما روي أنه عليه السلام قال: "من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون" وخامسها: أن الصالحين من قوم عيسى عليه السلام ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها، ثم جاء بعدهم قوم اقتدوا بهم في اللسان، وما كانوا مقتدين بهم في العمل، فهم الذين ما رعوها حق رعايتها، قال عطاء: لم يرعوها كما رعاها الحواريون، ثم قال: { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ } والمعنى أن بعضهم قام برعايتها وكثير منهم أظهر الفسق وترك تلك الطريقة ظاهراً وباطناً.