التفاسير

< >
عرض

يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ
٨
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
٩
-الصف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

{ لِيُطْفِئُواْ } أي أن يطفئوا وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في لا أباً لك، تأكيداً لمعنى الإضافة في أباك، وإطفاء نور الله تعالى بأفواههم، تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: { { هَـٰذَا سـحرٌ } [الصف: 6] مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، كذا ذكره في الكشاف، وقوله: { وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } قرىء بكسر الراء على الإضافة، والأصل هو التنوين، قال ابن عباس: يظهر دينه، وقال صاحب الكشاف: متم الحق ومبلغه غايته، وقيل: دين الله، وكتاب الله، ورسول الله، وكل واحد من هذه الثلاثة بهذه الصفة لأنه يظهر عليهم من الآثار وثانيها: أن نور الله ساطع أبداً وطالع من مطلع لا يمكن زواله أصلاً وهو الحضرة القدسية، وكل واحد من الثلاثة كذلك وثالثها: أن النور نحو العلم، والظلمة نحو الجهل، أو النور الإيمان يخرجهم من الظلمات إلى النور، أو الإسلام هو النور، أو يقال: الدين وضع إلهي سائق لأولي الألباب إلى الخيرات باختيارهم المحمود وذلك هو النور، والكتاب هو المبين قال تعالى: { { تِلْكَ ءَايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ } [الشعراء: 2] فالإبانة والكتاب هو النور، أو يقال: الكتاب حجة لكونه معجزاً، والحجة هو النور، فالكتاب كذلك، أو يقال في الرسول: إنه النور، وإلا لما وصف بصفة كونه رحمة للعالمين، إذ الرحمة بإظهار ما يكون من الأسرار وذلك بالنور، أو نقول: إنه هو النور، لأنه بواسطته اهتدى الخلق، أو هو النور لكونه مبيناً للناس ما نزل إليهم، والمبين هو النور، ثم الفوائد في كونه نوراً وجوه منها: أنه يدل على علو شأنه وعظمة برهانه، وذلك لوجهين أحدهما: الوصف بالنور وثانيهما: الإضافة إلى الحضرة، ومنها: أنه إذا كان نوراً من أنوار الله تعالى كان مشرقاً في جميع أقطار العالم، لأنه لا يكون مخصوصاً ببعض الجوانب، فكان رسولاً إلى جميع الخلائق، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأحمر والأسود" فلا يوجد شخص من الجن والإنس إلا ويكون من أمته إن كان مؤمناً فهو من أمة المتابعة، وإن كان كافراً فهو من أمة الدعوة.

وقوله تعالى: { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } أي اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين، وقوله: { بِٱلْهُدَىٰ } لمن اتبعه { وَدِينِ ٱلْحَقّ } قيل: الحق هو الله تعالى، أي دين الله: وقيل: نعت للدين، أي والدين هو الحق، وقيل: الذي يحق أن يتبعه كل أحد و{ يُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ } يريد الإسلام، وقيل: ليظهره، أي الرسول صلى الله عليه وسلم بالغلبة وذلك بالحجة، وههنا مباحث:

الأول: { وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } والتمام لا يكون إلا عند النقصان، فكيف نقصان هذا النور؟ فنقول إتمامه بحسب النقصان في الأثر، وهو الظهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب، إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار وهو الإتمام، يؤيده قوله تعالى: { { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3] وعن أبي هريرة: أن ذلك عند نزول عيسى من السماء، قال مجاهد.

الثاني: قال ههنا: { مُتِمُّ نُورِهِ } وقال في موضع آخر: { { مَثَلُ نُورِهِ } [النور: 35] وهذا عين ذلك أو غيره؟ نقول: هو غيره، لأن نور الله في ذلك الموضع هو الله تعالى عند أهل التحقيق، وهنا هو الدين أو الكتاب أو الرسول.

الثالث: قال في الآية المتقدمة: { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } وقال في المتأخرة: { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } فما الحكمة فيه؟ فنقول: إنهم أنكروا الرسول، وما أنزل إليه وهو الكتاب، وذلك من نعم الله، والكافرون كلهم في كفران النعم، فلهذا قال: { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك، والمراد من الكافرين ههنا اليهود والنصارى والمشركون، وهنا ذكر النور وإطفاءه، واللائق به الكفر لأنه الستر والتغطية، لأن من يحاول الإطفاء إنما يريد الزوال، وفي الآية الثانية ذكر الرسول والإرسال ودين الحق، وذلك منزلة عظيمة للرسول عليه السلام، وهي اعتراض على الله تعالى كما قال:

ألا قل لمن ظل لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في فعله
كأنه لم ترض لي ما وهب

والاعتراض قريب من الشرك، ولأن الحاسدين للرسول عليه السلام، كان أكثرهم من قريش وهم المشركون، ولما كان النور أعم من الدين والرسول، لا جرم قابله بالكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام والإرسال، والرسول والدين أخص من النور قابله بالمشركين الذين هم أخص من الكافرين.