التفاسير

< >
عرض

وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً
٨
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً
٩
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً
١٠
رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً
١١
-الطلاق

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

قوله تعالى: { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } الكلام في كأين قد مر، وقوله: { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا } وصف القرية بالعتو والمراد أهلها، كقوله: { { وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] قال ابن عباس: { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا } أي أعرضت عنه، وقال مقاتل: خالفت أمر ربها، وخالفت رسله، فحاسبناها حساباً شديداً، فحاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها العذاب، وهو قوله: { وَعَذَّبْنَـٰهَا عَذَاباً نُّكْراً } أي عذاباً منكراً عظيماً، فسر المحاسبة بالتعذيب. وقال الكلبي: هذا على التقديم والتأخير، يعني فعذبناها في الدنيا وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً، والمراد حساب الآخرة وعذابها { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } أي شدة أمرها وعقوبة كفرها. وقال ابن عباس: عاقبة كفرها { وَكَانَ عَـٰقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } أي عاقبة عتوها خساراً في الآخرة، وهو قوله تعالى: { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } يخوف كفار مكة أن يكذبوا محمداً فينزل بهم ما نزل بالأمم قبلهم، وقوله تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِى ٱلألْبَـٰبِ } خطاب لأهل الإيمان، أي فاتقوا الله عن أن تكفروا به وبرسوله، وقوله: { قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً } هو على وجهين أحدهما: أنزل الله إليكم ذكراً، هو الرسول، وإنما سماه ذكراً لأنه يذكر ما يرجع إلى دينهم وعقباهم وثانيهما: أنزل الله إليكم ذكراً، وأرسل رسولاً. وقال في «الكشاف»: { رَّسُولاً } هو جبريل عليه السلام، أبدل من { ذِكْراً } لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر، والذكر قد يراد به الشرف، كما في قوله تعالى: { { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف: 44] وقد يراد به القرآن، كما في قوله تعالى: { { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذّكْرَ } [النحل: 44] وقرىء (رسول) على هو رسول، و { يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ مُبَيّنَـٰتٍ } بالخفض والنصب، والآيات هي الحجج فبالخفض، لأنها تبين الأمر والنبي والحلال والحرام، ومن نصب يريد أنه تعالى أوضح آياته وبينها أنها من عنده.

وقوله تعالى: { لّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ } يعني من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم.

وفي الآية مباحث:

الأولى: قوله تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِى ٱلألْبَـٰبِ } يتعلق بقوله تعالى: { وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا } أم لا؟ فنقول: قوله: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } يؤكد قول من قال: المراد من قرية أهلها، لما أنه يدل على أن خطاب الله تعالى لا يكون إلا لذوي العقول فمن لا عقل له فلا خطاب عليه، وقيل قوله تعالى: { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } مشتمل على الترهيب والترغيب.

الثاني: الإيمان هو التقوى في الحقيقة وأولوا الألباب الذين آمنوا كانوا من المتقدمين بالضرورة فكيف يقال لهم: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }؟ نقول: للتقوى درجات ومراتب فالدرجة الأولى هي التقوى من الشرك والبواقي هي التقوى من المعاصي التي هي غير الشرك فأهل الإيمان إذا أمروا بالتقوى كان ذلك الأمر بالنسبة إلى الكبائر والصغائر لا بالنسبة إلى الشرك.

الثالث: كل من آمن بالله فقد خرج من الظلمات إلى النور وإذا كان كذلك فحق هذا الكلام وهو قوله تعالى: { لّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } أن يقال: ليخرج الذين كفروا؟ نقول: يمكن أن يكون المراد: ليخرج الذين يؤمنون على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل كما في قوله تعالى: { { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى } [آل عمران: 55] أي وإذ يقول الله، ويمكن أن يكون ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم.

ثم قال تعالى: { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَـٰلِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً }.

قوله: { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ } فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب، وقرىء { يُدْخِلْهُ } بالياء والنون، و { قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } قال الزجاج: رزقه الله الجنة التي لا ينقطع نعيمها، وقيل: { رِزْقاً } أي طاعة في الدنيا وثواباً في الآخرة ونظيره { { رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلأَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 201].