التفاسير

< >
عرض

سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ
١٦
-القلم

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الوسم أثر الكية وما يشبهها، يقال: وسمته فهو موسوم بسمة يعرف بها إما كية، وإما قطع في أذن علامة له.

المسألة الثانية: قال المبرد: الخرطوم ههنا الأنف، وإنما ذكر هذا اللفظ على سبيل الاستخفاف به، لأن التعبير عن أعضاء الناس بالأسماء الموضوعة، لأشباه تلك الأعضاء من الحيوانات يكون استخفافاً، كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر.

المسألة الثالثة: الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية، واشتقوا منه الأنفة، وقالوا: الأنف في الأنف وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين، وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين، فكيف على أكرم موضع من الوجه.

المسألة الرابعة: منهم من قال: هذا الوسم يحصل في الآخرة، ومنهم من قال: يحصل في الدنيا، أما على القول الأول: ففيه وجوه أولها: وهو قول مقاتل وأبي العالية واختيار الفراء: أن المراد أنه يسود وجهه قبل دخول النار، والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة فإن المراد هو الوجه لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض وثانيها: أن الله تعالى سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل القيامة، إنه كان غالياً في عداوة الرسول، وفي إنكار الدين الحق وثالثها: أن في الآية احتمالاً آخر عندي، وهو أن ذلك الكافر إنما بالغ في عداوة الرسول وفي الطعن في الدين الحق بسبب الأنفة والحمية، فلما كان منشأ هذا الإنكار هو الأنفة والحمية كان منشأ عذاب الآخرة هو هذه الأنفة والحمية، فعبر عن هذا الاختصاص بقوله: { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }، وأما على القول الثاني: وهو أن هذا الوسم إنما يحصل في الدنيا ففيه وجوه: أحدها: قال ابن عباس سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش. وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال وثانيها: أن معنى هذا الوسم أنه يصير مشهوراً بالذكر الرديء والوصف القبيح في العالم، والمعنى سنلحق به شيئاً لا يفارقه ونبين أمره بياناً واضحاً حتى لا يخفى كما لا تخفى السمة على الخراطيم، تقول العرب للرجل الذي تسبه في مسبة قبيحة باقية فاحشة: قد وسمه ميسم سوء، والمراد أنه ألصق به عاراً لا يفارقه كما أن السمة لا تنمحي ولا تزول ألبتة، قال جرير:

لما وضعت على الفرزدق ميسمي وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

يريد أنه وسم الفرزدق (والبعيث) وجدع أنف الأخطل بالهجاء أي ألقى عليه عاراً لا يزول، ولا شك أن هذه المبالغة العظيمة في مذمة الوليد بن المغيرة بقيت على وجه الدهر فكان ذلك كالموسم على الخرطوم، ومما يشهد لهذا الوجه قول من قال في { زَنِيمٍ } إنه يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها وثالثها: يروى عن النضر بن شميل أن الخرطوم هو الخمر وأنشد:

تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شراب الخراطيم

فعلى هذا معنى الآية: سنحده على شرب الخمر وهو تعسف، وقيل للخمر الخرطوم كما يقال لها السلافة، وهي ما سلف من عصير العنب، أو لأنها تطير في الخياشيم.