التفاسير

< >
عرض

وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
١٦٣
-الأعراف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن هذه القصة أيضاً مذكورة في سورة البقرة. وفيها مسائل:

المسألة الأولى: قوله تعالى: { واسألهم } المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم، لأن هذه القصة قد صارت معلومة للرسول من قبل الله تعالى، وإنما المقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء: الأول: أن المقصود من ذكر هذا السؤال تقرير أنهم كانوا قد أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة تنبيهاً لهم على أن إصرارهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبمعجزاته ليس شيئاً حدث في هذا الزمان، بل هذا الكفر والإصرار كان حاصلاً في أسلافهم من الزمان القديم.

والفائدة الثانية: أن الإنسان قد يقول لغيره هل هذا الأمر كذا وكذا؟ ليعرف بذلك أنه محيط بتلك الواقعة، وغير ذاهل عن دقائقها، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أمياً لم يتعلم علماً، ولم يطالع كتاباً، ثم أنه يذكر هذه القصص على وجهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، كان ذلك جارياً مجرى المعجز.

المسألة الثانية: الأكثرون على أن تلك القرية أيلة. وقيل: مدين. وقيل طبرية، والعرب تسمى المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج يعني رجلين من أهل المدن، وقوله: { كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ } يعني قريبة من البحر وبقربه وعلى شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى: { ذٰلِكَ لِمَنْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 196] وقوله: { إِذْ يَعْدُونَ فِى ٱلسَّبْتِ } يعني يجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم يوم السبت وقد نهوا عنه، وقرىء { يَعْدُونَ } بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين و { يَعْدُونَ } من الأعداد وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة و { ٱلسَّبْتِ } مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها فقوله: { إِذْ يَعْدُونَ فِى ٱلسَّبْتِ } معناه يعدون في تعظيم هذا اليوم، وكذلك قوله: { يَوْمَ سَبْتِهِمْ } معناه: يوم تعظيمهم أمر السبت، ويدل عليه قوله: { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ } ويؤكده أيضاً قراءة عمر بن عبد العزيز (يوم أسباتهم) وقرىء { لاَ يَسْبِتُونَ } بضم الباء، وقرأ على رضى الله عنه { لاَ يَسْبِتُونَ } بضم الياء من أسبتوا، وعن الحسن { لاَ يَسْبِتُونَ } على البناء للمفعول، وقوله: { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ } نصب بقوله: { يَعْدُونَ } والمعنى: سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان، وقوله: { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا } أي ظاهرة على الماء وشرع جمع شارع وشارعة وكل شيء دان من شيء فهو شارع، ودار شارعة أي دنت من الطريق، ونجوم شارعة أي دنت من المغيب. وعلى هذا فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها، قال ابن عباس ومجاهد: إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به، يوم الجمعة، فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد فيه وأمروا بتعظيمه، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل. وذلك بلاء ابتلاهم الله به، فذلك معنى قوله: { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } وقوله: { كَذٰلِكَ نَبْلُوهُم } أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم، وذلك يدل على أن من أطاع الله تعالى خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لا في الدين ولا في الدنيا وذلك لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت ربما يحملهم على المعصية والكفر، فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح، لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم صوناً لهم عن ذل الكفر والمعصية. فلما فعل ذلك ولم يبال بكفرهم ومعصيتهم علمنا أن رعاية الصلاح والأصلح غير واجبة على الله تعالى.