التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ
٨٦
وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٧
-الأعراف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن شعيباً عليه السلام ضم إلى ما تقدم ذكره من التكاليف الخمسة أشياء. الأول: أنه منعهم من أن يقعدوا على طرق الدين ومناهج الحق، لأجل أن يمنعوا الناس عن قبوله وفي قوله: { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرٰطٍ } قولان: الأول: يحمل الصراط على الطريق الذي يسلكه الناس. روي أنهم كانوا يجلسون على الطرقات ويخوفون من آمن بشعيب عليه السلام. والثاني: أن يحمل الصراط على مناهج الدين، قال صاحب «الكشاف»: { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرٰطٍ } أي ولا تقتدوا بالشيطان في قوله: { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] قال والمراد بالصراط كل ما كان من مناهج الدين، والدليل على أن المراد بالصراط ذلك قوله: { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } وقوله: { بِكُلِّ صِرٰطٍ } يقال قعد له بمكان كذا وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا، وهذه الحروف تتعاقب في هذه المواضع لتقارب معانيها، فإنك إذا قلت قعد بمكان كذا، فالباء للإلصاق، وهو قد التصق بذلك المكان.

وأما قوله: { تُوعِدُونَ } فمحله ومحل ما عطف عليه النصب على الحال، والتقدير: ولا تقعدوا موعدين ولا صادين عن سبيل الله ولا أن تبغوا عوجاً في سبيل الله، والحاصل: أنه نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأمور الثلاثة. واعلم أنه تعالى لما عطف بعض هذه الثلاثة على البعض. وجب حصول المغايرة بينها فقوله: { تُوعِدُونَ } يحصل بذلك إنزال المضار بهم وأما الصد، فقد يكون بالإيعاد بالمضار، وقد يكون بالوعد بالمنافع بما لو تركه، وقد يكون بأن لا يمكنه من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه.

أما قوله: { وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } فالمراد إلقاء الشكوك والشبهات والمراد من الآية أن شعيباً منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاثة. وإذا تأملت علمت أن أحداً لا يمكنه منع غيره من قبول مذهب أو مقالة إلا بأحد هذه الطرق الثلاثة.

ثم قال: { وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } والمقصود منه أنهم إذا تذكروا كثرة إنعام الله عليهم فالظاهر أن ذلك يحملهم على الطاعة والبعد عن المعصية، قال الزجاج: وهذا الكلام يحتمل ثلاثة أوجه، كثر عددكم بعد القلة، وكثركم بالغنى بعد الفقر، وكثركم بالقدرة بعد الضعف، ووجه ذلك أنهم إذا كانوا فقراء أو ضعفاء فهم بمنزلة القليل، في أنه لا يحصل من وجودهم قوة وشوكة. فأما تكثير عددهم بعد القلة؛ فهو أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط، فولدت حتى كثر عددهم.

ثم قال بعده: { وَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } والمعنى تذكروا عاقبة المفسدين وما لحقهم من الخزي والنكال، ليصير ذلك زاجراً لكم عن العصيان والفساد، فقوله: { وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } المقصود منه أنهم إذا تذكروا نعم الله عليهم انقادوا وأطاعوا، وقوله: { وَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } المقصود منه أنهم إذا عرفوا أن عاقبة المفسدين المتمردين ليست إلا الخزي والنكال، احترزوا عن الفساد والعصيان وأطاعوا، فكان المقصود من هذين الكلامين حملهم على الطاعة بطريق الترغيب أولاً والترهيب ثانياً.

ثم قال: { وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بِٱلَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ } والمقصود منه تسلية قلوب المؤمنين وزجر من لم يؤمن، لأن قوله: { فَٱصْبِرُواْ } تهديد، وكذلك قوله: { حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا } والمراد إعلاء درجات المؤمنين، وإظهار هوان الكافرين، وهذه الحالة قد تظهر في الدنيا فإن لم تظهر في الدنيا فلا بد من ظهورها في الآخرة.

ثم قال: { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَـٰكِمِينَ } يعني أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف، فلا بد وأن يخص المؤمن التقي بالدرجات العالية، والكافر الشقي بأنواع العقوبات، ونظيره قوله: { { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِى ٱلأَرْضِ } [صۤ: 28].