التفاسير

< >
عرض

إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
٣
-الإنسان

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

قوله تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ } أخبر الله تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل والأمر كذلك لأن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء، إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، فإذا أحس بالمحسوسات تنبه لمشاركات بينها ومباينات، ينتزع منها عقائد صادقة أولية، كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الكل أعظم من الجزء، وهذه العلوم الأولية هي آلة العقل لأن بتركيباتها يمكن التوصل إلى استعلام المجهولات النظرية، فثبت أن الحس مقدم في الوجود على العقل، ولذلك قيل: من فقد حساً فقد علماً، ومن قال: المراد من كونه سميعاً بصيراً هو العقل، قال: إنه لما بين في الآية الأولى أنه أعطاه العقل بين في هذه الآية، أنه إنما أعطاه العقل ليبين له السبيل ويظهر له أن الذي يجب فعله ما هو. والذي لا يجوز ما هو.

المسألة الثانية: السبيل هو الذي يسلك من الطريق، فيجوز أن يكون المراد بالسبيل ههنا سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، ويكون معنى هديناه، أي عرفناه وبينا كيفية كل واحد منهما له، كقوله تعالى: { { وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد: 10] ويكون السبيل اسماً للجنس، فلهذا أفرد لفظه كقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ } [العصر: 2] ويجوز أن يكون المراد بالسبيل، هو سبيل الهدى لأنها هي الطريقة المعروفة المستحقة لهذا الاسم على الإطلاق، فأما سبيل الضلالة فإنما هي سبيل بالإضافة، ألا ترى إلى قوله تعالى: { { إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [الأحزاب: 67] وإنما أضلوهم سبيل الهدى، ومن ذهب إلى هذا جعل معنى قوله: { هَدَيْنَـٰهُ } أي أرشدناه، وإذا أرشد لسبيل الحق، فقد نبه على تجنب ما سواها، فكان اللفظ دليلاً على الطريقين من هذا الوجه.

المسألة الثالثة: المراد من هداية السبيل خلق الدلائل، وخلق العقل الهادي وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب، كأنه تعالى قال: خلقتك للابتلاء ثم أعطيتك كل ما تحتاج إليه ليهلك من هلك عن بينة وليس معناه خلقنا الهداية، ألا ترى أنه ذكر السبيل، فقال: { هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ } أي أريناه ذلك.

المسألة الرابعة: قال الفراء: هديناه السبيل، وإلى السبيل وللسبيل، كل ذلك جائز في اللغة.

قوله تعالى: { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } فيه مسائل:

المسألة الأولى: في الآية أقوال:

الأول: أن شاكر أو كفوراً حالان من الهاء، في هديناه السبيل، أي هديناه السبيل كونه شاكراً وكفوراً، والمعنى أن كل ما يتعلق بهداية الله وإرشاده، فقد تم حالتي الكفر والإيمان.

والقول الثاني: أنه انتصب قوله شاكراً وكفوراً بإضمار كان، والتقدير سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.

والقول الثالث: معناه إنا هديناه السبيل، ليكون إما شاكراً وإما كفوراً أي ليتميز شكره من كفره وطاعته من معصيته كقوله: { { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7] وقوله: { { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } [العنكبوت: 3] وقوله: { { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ } [محمد: 31] قال القفال: ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل، قد نصحت لك إن شئت فأقبل، وإن شئت فاترك، أي فإن شئت فتحذف الفاء فكذا المعنى: إنا هديناه السبيل فإما شاكراً وإما كفوراً، فتحذف الفاء وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد أي إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر وإن شاء فليشكر، فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا، كقوله: { { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29].

القول الرابع: أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل، أي إما سبيلاً شاكراً، وإما سبيلاً كفوراً، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.

واعلم أن هذه الأقوال كلها لائقة بمذهب المعتزلة.

والقول الخامس: وهو المطابق لمذهب أهل السنة، واختيار الفراء أن تكون إما هذه الآية كإما في قوله: { { إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 106] والتقدير: إنا هدينـاه السبيل ثم جعلناه تارة شـاكراً أو تارة كفورًا ويتأكد هذا التأويل بما روي أنه قرأ أبو السمال بفتح الهمزة في { أَمَّا }، والمعنى أما شاكراً فبتوفيقنا وأما كفوراً فبخذلاننا، قالت المعتزلة: هذا التأويل باطل، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية تهديد الكفار فقال: { { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ سَلَـٰسِلَ وَأَغْلَـٰلاً وَسَعِيراً } [الإنسان: 4] ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه، ولما بطل هذا التأويل ثبت أن الحق هو التأويل الأول وهو أنه تعالى هدى جميع المكلفين سواء آمن أو كفر، وبطل بهذا قول المجبرة أنه تعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان، أجاب أصحابنا بأنه تعالى لما علم من الكافر أنه لا يؤمن ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بأن يجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان وهذا تكليف بالجمع بين المتنافيين، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز أيضاً أن يخلق الكفر فيه ولا يصير ذلك عذراً في سقوط الوعيد وإذا ثبت هذا ظهر أن هذا التأويل هو الحق، وأن التأويل اللائق بقول المعتزلة: ليس بحق، وبطل به قول المعتزلة.

المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر نعمه على الإنسان فابتدأ بذكر النعم الدنيوية، ثم ذكر بعده النعم الدينية، ثم ذكر هذه القسمة.

واعلم أنه لا يمكن تفسير الشاكر والكفور بمن يكون مشتغلاً بفعل الشكر وفعل الكفران وإلا لم يتحقق الحصر، بل المراد من الشاكر الذي يكون مقراً معترفاً بوجوب شكر خالقه عليه والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه، إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه وإن كان يثبته لكنه ينكر وجوب الشكر عليه، وحينئذ يتحقق الحصر وهو أن المكلف، إما أن يكون شاكراً وإما أن يكون كفوراً، واعلم أن الخوارج احتجوا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين المطيع والكافر، قالوا: لأن الشاكر هو المطيع، والكفور هو الكافر، والله تعالى نفى الواسطة وذلك يقتضي أن يكون كل ذنب كفراً، وأن يكون كل مذنب كافراً، واعلم أن البيان الذي لخصناه يدفع هذا الإشكال، فإنه ليس المراد من الشاكر الذي يكون مشتغلاً بفعل الشكر فإن ذلك باطل طرداً وعكساً، أما الطرد فلأن اليهودي قد يكون شاكراً لربه مع أنه لا يكون مطيعاً لربه، والفاسق قد يكون شاكراً لربه، مع أنه لا يكون مطيعاً لربه، وأما العكس فلأن المؤمن قد لا يكون مشتغلاً بالشكر ولا بالكفران، بل يكون ساكناً غافلاً عنهما، فثبت أنه لا يمكن تفسير الشاكر بذلك، بل لا بد وأن يفسر الشاكر بمن يقر بوجوب الشكر والكفور بمن لا يقر بذلك، وحينئذ يثبت الحصر، ويسقط سؤالهم بالكلية، والله أعلم.