التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ
٦
تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ
٧
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ
٨
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ
٩
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ
١٠
أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً
١١
-النازعات

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

فيه مسائل:

المسألة الأولى: جواب القسم المتقدم محذوف أو مذكور فيه وجهان الأول: أنه محذوف، ثم على هذا الوجه في الآية احتمالات:

الأول: قال الفراء التقدير: لتبعثن، والدليل عليه ما حكى الله تعالى عنهم، أنهم قالوا: { أَءذَا كُنَّا عِظَـٰماً نَّخِرَةً } [النازعات: 11] أي أنبعث إذا صرنا عظاماً نخرة الثاني: قال الأخفش والزجاج: لننفخن في الصور نفختين ودل على هذا المحذوف ذكر الراجفة والرادفة وهما النفختان الثالث: قال الكسائي: الجواب المضمر هو أن القيامة واقعة وذلك لأنه سبحانه وتعالى قال: { { وَٱلذرِيَـٰتِ ذَرْواً } [الذاريات: 1] ثم قال: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَـٰدِقٌ } [الذاريات: 5] وقال: { { وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ عُرْفاً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوٰقِعٌ } [المرسلات: 7،1] فكذلك ههنا فإن القرآن كالسورة الواحدة القول الثاني: أن الجواب مذكور وعلى هذا القول احتمالات الأول: المقسم عليه هو قوله: { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَـٰرُهَا خَـٰشِعَةٌ } والتقدير والنازعات غرقاً أن يوم ترجف الراجفة تحصل قلوب واجفة وأبصارها خاشعة الثاني: جواب القسم هو قوله: { { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } [النازعات: 15] فإن هل ههنا بمعنى قد، كما في قوله: { { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَـٰشِيَةِ } [الغاشية: 1] أي قد أتاك حديث الغاشية الثالث: جواب القسم هو قوله: { إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىٰ } [النازعات: 26].

المسألة الثانية: ذكروا في ناصب يوم بوجهين أحدهما: أنه منصوب بالجواب المضمر والتقدير لتبعثن يوم ترجف الراجفة، فإن قيل كيف يصح هذا مع أنهم لا يبعثون عند النفخة الأولى والراجفة هي النفخة الأولى؟ قلنا المعنى لتبعثن في الوقت الواسع الذي يحصل فيه النفختان، ولا شك أنهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع وهو وقت النفخة الأخرى، ويدل على ما قلناه أن قوله: { تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } جعل حالاً عن الراجفة والثاني: أن ينصب يوم ترجف بما دل عليه: { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } أي يوم ترجف وجفت القلوب.

المسألة الثالثة: الرجفة في اللغة تحتمل وجهين أحدهما: الحركة لقوله: { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ } [المزمل: 14]. الثاني: الهدة المنكرة والصوت الهائل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً، وذلك تردد أصواته المنكرة وهدهدته في السحاب، ومنه قوله تعالى: { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } [الأعراف: 91] فعلى هذا الوجه الراجفة صيحة عظيمة فيها هول وشدة كالرعد، وأما الرادفة فكل شيء جاء بعد شيء آخر يقال ردفه، أي جاء بعده، وأما القلوب الواجفة فهي المضطربة الخائفة، يقال: وجف قلبه يجف وجافاً إذا اضطرب، ومنه إيجاف الدابة، وحملها على السير الشديد، وللمفسرين عبارات كثيرة في تفسير الواجفة ومعناها واحد، قالوا: خائفة وجلة زائدة عن أماكنها قلقة مستوفزة مرتكضة شديدة الاضطراب غير ساكنة، أبصار أهلها خاشعة، وهو كقوله: { خَـٰشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيّ } [الشورى: 45] إذا عرفت هذا فنقول، اتفق جمهور المفسرين على أن هذه الأمور أحوال يوم القيامة، وزعم أبو مسلم الأصفهاني أنه ليس كذلك ونحن نذكر تفاسير المفسرين ثم نشرح قول أبي مسلم.

أما القول الأول: وهو المشهور بين الجمهور، أن هذه الأحوال أحوال يوم القيامة فهؤلاء ذكروا وجوهاً أحدها: أن الراجفة هي النفخة الأولى، وسميت به إما لأن الدنيا تتزلزل وتضطرب عندها، وإما لأن صوت تلك النفخة هي الراجفة، كما بينا القول فيه، والراجفة رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء على ما ذكره تعالى في سورة الزمر، ثم يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن بين النفختين أربعين عاماً، ويروى في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف، وأن ذلك كالسبب للأحياء، وهذا مما لا حاجة إليه في الإعادة، ولله أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد وثانيها: الراجفة هي النفخة الأولى والرادفة هي قيام الساعة من قوله: { عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ ٱلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } [النمل: 72] أي القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعاداً لها فهي رادفة لهم لاقترابها وثالثها: الراجفة الأرض والجبال من قوله: { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ } والرادفة السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر ذلك ورابعها: الراجفة هي الأرض تتحرك وتتزلزل والرادفة زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى القول الثاني: وهو قول أبي مسلم أن هذه الأحوال ليست أحوال يوم القيامة، وذلك لأنا نقلنا عنه أنه فسر النازعات بنزع القوس والناشطات بخروج السهم، والسابحات بعدو الفرس، والسابقات بسبقها، والمدبرات بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي والعدو، ثم بنى على ذلك فقال الراجفة هي خيل المشركين وكذلك الرادفة ويراد بذلك طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقت إحداهما الأخرى، والقلوب الواجفة هي القلقة، والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين كقوله: { ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } [محمد: 20] كأنه قيل لما جاء خيل العدو يرجف، وردفتها أختها اضطرب قلوب المنافقين خوفاً، وخشعت أبصارهم جبناً وضعفاً، ثم قالوا: { { أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَـٰفِرَةِ } [النازعات: 10] أي نرجع إلى الدنيا حتى نتحمل هذا الخوف لأجلها وقالوا أيضاً: { { تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَـٰسِرَةٌ } [النازعات: 12] فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأوسطه حكاية لحال المنافقين وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر، ثم إنه سبحانه وتعالى أجاب عن كلامهم بقوله: { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وٰحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ } [النازعات: 14,13] وهذا كلام أبي مسلم واللفظ محتمل له وإن كان على خلاف قول الجمهور.

قوله تعالى: { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَـٰرُهَا خَـٰشِعَةٌ } اعلم أنه تعالى لم يقل: القلوب يومئذ واجفة، فإنه ثبت بالدليل أن أهل الإيمان لا يخافون بل المراد منه قلوب الكفار، ومما يؤكد ذلك أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: { أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَـٰفِرَةِ } [النازعات: 10] وهذا كلام الكفار لا كلام المؤمنين، وقوله: { أَبْصَـٰرُهَا خَـٰشِعَةٌ } لأن المعلوم من حال المضطرب الخائف أن يكون نظره نظر خاشع ذليل خاضع يترقب ما ينزل به من الأمر العظيم، وفي الآية سؤالان:

السؤال الأول: كيف جاز الابتداء بالنكرة؟ الجواب: قلوب مرفوعة بالابتداء وواجفة صفتها وأبصارها خاشعة خبرها فهو كقوله: { لَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ } [البقرة: 221].

السؤال الثاني: كيف صحت إضافة الأبصار إلى القلوب؟ الجواب: معناه أبصار أصحابها بدليل قوله يقولون، ثم اعلم أنه تعالى حكى ههنا عن منكري البعث أقوالاً ثلاثة:

أولها: قوله تعالى: { يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى ٱلْحَـٰفِرَةِ } يقال رجع فلان في حافرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفراً فهي في الحقيقة محفورة إلا أنها سميت حافرة، كما قيل: { فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة: 21] و { { مَّاء دَافِقٍ } [الطارق: 6] أي منسوبة إلى الحفر والرضا والدفق أو كقولهم نهارك صائم، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته، أي إلى طريقته وفي الحديث: "إن هذا الأمر لا يترك على حاله حتى يرد على حافرته" أي على أول تأسيسه وحالته الأولى وقرأ أبو حيوة في الحفرة، والحفرة بمعنى المحفورة يقال: حفرت أسنانه، فحفرت حفراً، وهي حفرة، هذه القراءة دليل على أن الحافرة في أصل الكلمة بمعنى المحفور، إذا عرفت هذا ظهر أن معنى الآية: أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا.

وثانيها: قوله تعالى: { أَءِذَا كُنَّا عِظَـٰماً نَّخِرَةً } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حمزة وعاصم ناخرة بألف، وقرأ الباقون نخرة بغير ألف، واختلفت الرواية عن الكسائي فقيل: إنه كان لا يبالي كيف قرأها، وقيل: إنه كان يقرؤها بغير ألف، ثم رجع إلى الألف، واعلم أن أبا عبيدة اختار نخرة، وقال: نظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت، فوجدناها كلها العظام النخرة، ولم نسمع في شيء منها الناخرة، وأما من سواه، فقد اتفقوا على أن الناخرة لغة صحيحة، ثم اختلف هؤلاء على قولين: الأول: أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد قال الأخفش هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن، وقال الفراء: الناخر والنخر سواء في المعنى بمنزله الطامع والطمع، والباخل والبخل، وفي كتاب «الخليل» نخرت الخشبة إذا بليت فاسترخت حتى تتفتت إذا مست، وكذلك العظم الناخر، ثم هؤلاء الذين قالوا: هما لغتان والمعنى واحد اختلفوا فقال الزجاج والفراء: الناخرة أشبه الوجهين بالآية لأنها تشبه أواخر سائر الآي نحو الحافرة والساهرة، وقال آخرون: الناخرة والنخر كالطامع والطمع، واللابث واللبث وفعل أبلغ من فاعل القول الثاني: أن النخرة غير والناخرة غير، أما النخرة فهو من نخر العظم ينخر فهو نخر مثل عفن يعفن فهو عفن، وذلك إذا بلي وصار بحيث لو لمسته لتفتت، وأما الناخرة فهي العظام الفارغة التي يحصل من هبوب الريح فيها صوت كالنخير، وعلى هذا الناخرة من النخير بمعنى الصوت كنخير النائم والمخنوق لا من النخر الذي هو البلى.

المسألة الثانية: إذاً منصوب بمحذوف تقدير إذا كنا عظاماً نرد ونبعث.

المسألة الثالثة: اعلم أن حاصل هذه الشبهة أن الذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله: أنا هو هذا الجسم المبني بهذه البنية المخصوصة، فإذا مات الإنسان فقد بطل مزاجه وفسد تركيبه فتمتنع إعادته لوجوه أحدها: أنه لا يكون الإنسان العائد هو الإنسان الأول إلا إذا دخل التركيب الأول في الوجود مرة أخرى، وذلك قول بإعادة عين ما عدم أولاً، وهذا محال لأن الذي عدم لم يبق له عين ولا ذات ولا خصوصية، فإذا دخل شيء آخر في الوجود استحال أيقال بأن العائد هو عين ما فني أولاً وثانيها: أن تلك الأجزاء تصير تراباً وتتفرق وتختلط بأجزاء كل الأرض وكل المياه وكل الهواء فتميز تلك الأجزاء بأعيانها عن كل هذه الأشياء محال وثالثها: أن الأجزاء الترابية باردة يابسة قشفة فتولد الإنسان الذي لا بد وأن يكون حاراً رطباً في مزاجه عنها محال، هذا تمام تقرير كلام هؤلاء الذين احتجوا على إنكار البعث بقولهم: { أَءذَا كُنَّا عِظَـٰماً نَّخِرَةً } والجواب: عن هذه الشبهة من وجوه أولها: وهو الأقوى: لا نسلم أن المشار إليه لكل أحد بقوله: أنا هو هذا الهيكل، ثم إن الذي يدل على فساده وجهان الأول: أن أجزاء هذا الهيكل في الزوبان والتبدل، والذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله أنا ليس في التبدل والمتبدل مغاير لما هو غير متبدل والثاني: أن الإنسان قد يعرف أنه هو حال كونه غافلاً عن أعضائه الظاهرة والباطنة، والمشعور به مغاير لما هو غير مشعور به وإلا لاجتمع النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال، فثبت أن المشار إليه لكل أحد بقوله: أنا ليس هو هذا الهيكل، ثم ههنا ثلاث احتمالات أحدها: أن يكون ذلك الشيء موجوداً قائماً بنفسه ليس بجسم ولا بجسماني على ما هو مذهب طائفة عظيمة من الفلاسفة ومن المسلمين وثانيها: أن يكون جسماً مخالفاً بالماهية لهذه الأجسام القابلة للإنحلال والفساد سارية فيها سريان النار في الفحم وسريان الدهن في السمسم وسريان ماء الورد في جرم الورد فإذا فسد هذا الهيكل تقلصت تلك الأجزاء وبقيت حية مدركة عاقلة، إما في الشقاوة أو في السعادة وثالثها: أن يقال: إنه جسم مساو لهذه الأجسام في الماهية إلا أن الله تعالى خصها بالبقاء والاستمرار من أول حال تكون شخص في الوجود إلى آخر عمره، وأما سائر الأجزاء المتبدلة تارة بالزيادة وأخرى بالنقصان فهي غير داخلة في المشار إليه بقوله أنا فعند الموت تنفصل تلك الأجزاء. وتبقى حية، إما في السعادة أو في الشقاوة، وإذا ظهرت هذه الاحتمالات ثبت أنه لا يلزم من فساد البدن وتفرق أجزائه فساد ما هو الإنسان حقيقة، وهذا مقام حسن متين تنقطع به جميع شبهات منكري البعث. وعلى هذا التقدير لا يكون لصيرورة العظام نخرة بالية متفرقة تأثير في دفع الحشر والنشر ألبتة، سلمنا على سبيل المسامحة أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل، فلم قلتم: إن الإعادة ممتنعة؟

(أولاً): المعدوم لا يعاد: قلنا: أليس أن حال عدمه لم يمتنع عندكم صحة الحكم عليه بأنه يمتنع عوده، فلم لا يجوز أن لا يمتنع على قولنا أيضاً صحة الحكم عليه بالعود، قول: ثانياً: الأجزاء القليلة مختلطة بأجزاء العناصر الأربعة، قلنا لكن ثبت أن خالق العالم عالم بجميع الجزئيات، وقادر على كل الممكنات فيصح منه جمعها بأعيانها. وإعادة الحياة إليها. قوله: ثالثاً: الأجسام القشفة اليابسة لا تقبل الحياة. قلنا: نرى السمندل، يعيش في النار، والنعامة تبتلع الحديدة المحماة، والحيات الكبار العظام متولدة في الثلوج، فبطل الاعتماد على الاستقراء، والله الهادي إلى الصدق والصواب.