التفاسير

< >
عرض

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ
١٢
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ
١٣
وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ
١٤
ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ
١٥
فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
١٦
-البروج

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أولاً وذكر وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثانياً أردف ذلك الوعد والوعيد بالتأكيد فقال لتأكيد الوعيد: { إن بطش ربك لشديد } والبطش هو الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم ونظيره { { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود: 102] ثم إن هذا القادر لا يكون إمهاله لأجل الإهمال، لكن لأجل أنه حكيم إما بحكم المشيئة أو بحكم المصلحة، وتأخير هذا الأمر إلى يوم القيامة، فلهذا قال: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ } أي إنه يخلق خلقه ثم يفنيهم ثم يعيدهم أحياء ليجازيهم في القيامة، فدل الإمهال لهذا السبب لا لأجل الإهمال، قال ابن عباس: إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ثم يعيدهم خلقاً جديداً، فذاك هو المراد من قوله: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ }.

ثم قال لتأكيد الوعد: { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ } فذكر من صفات جلاله وكبريائه خمسة:

أولها: الغفور قالت المعتزلة: هو الغفور لمن تاب، وقال أصحابنا: إنه غفور مطلقاً لمن تاب ولمن لم يتب لقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [النساء: 48] ولأن غفران التائب واجب وأداء الواجب لا يوجب التمدح والآية مذكورة في معرض التمدح وثانيها: الودود وفيه أقوال: أحدها: المحب هذا قول أكثر المفسرين، وهو مطابق للدلائل العقلية، فإن الخير مقتضى بالذات والشر بالعرض، ولا بد أن يكون الشر أقل من الخير فالغالب لا بد وأن يكون خيراً فيكون محبوباً بالذات وثانيها: قال الكلبي: الودود هو المتودد إلى أوليائه بالمغفرة والجزاء، والقول هو الأول وثالثها: قال الأزهري: قال بعض أهل اللغة يجوز أن يكون ودود فعولاً بمعنى مفعول كركوب وحلوب، ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لما عرفوا من كماله في ذاته وصفاته وأفعاله، قال: وكلتا الصفتين مدح لأنه جل ذكره إذا أحب عباده المطيعين فهو فضل منه، وإن أحبه عباده العارفون فلما تقرر عندهم من كريم إحسانه. ورابعها: قال القفال: قيل الودود قد يكون بمعنى الحليم من قولهم: دابة ودود وهي المطيعة القياد التي كيف عطفتها انعطفت وأنشد قطرب:

وأعددت للحرب خيفانة ذلول القياد وقاحا ودودا

وثالثها: ذو العرش، قال القفال: ذو العرش أي ذو الملك والسلطان كما يقال: فلان على سرير ملكه، وإن لم يكن على السرير، وكما يقال: ثل عرش فلان إذا ذهب سلطانه، وهذا معنى متفق على صحته، وقد يجوز أن يكون المراد بالعرش السرير، ويكون جل جلاله خلق سريراً في سمائه في غاية العظمة والجلالة بحيث لا يعلم عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه ورابعها: المجيد، وفيه قراءتان إحداهما: الرفع فيكون ذلك صفة لله سبحانه، وهو اختيار أكثر القراء والمفسرين لأن المجد من صفات التعالي والجلال، وذلك لا يليق إلا بالله سبحانه، والفصل والاعتراض بين الصفة والموصوف في هذا النحو غير ممتنع والقراءة الثانية: بالخفض وهي قراءة حمزة والكسائي، فيكون ذلك صفة العرش، وهؤلاء قالوا: القرآن دل على أنه يجوز وصف غير الله بالمجيد حيث قال: { { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ } [البروج: 21] ورأينا أن الله تعالى وصف العرش بأنه كريم فلا يبعد أيضاً أن يصفه بأنه مجيد، ثم قالوا: إن مجد الله عظمته بحسب الوجوب الذاتي وكمال القدرة والحكمة والعلم، وعظمة العرش علوه في الجهة وعظمة مقداره وحسن صورته وتركيبه، فإنه قيل: العرش أحسن الأجسام تركيباً وصورة وخامسها: أنه فعال لما يريد وفيه مسائل:

المسألة الأولى: فعال خبر مبتدأ محذوف.

المسألة الثانية: من النحويين من قال: { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ } خبران لمبتدأ واحد، وهذا ضعيف لأن المقصود بالإسناد إلى المبتدأ إما أن يكون مجموعها أو كل واحد واحد منهما، فإن كان الأول كان الخبر واحد الآخرين وإن كان الثاني كانت القضية لا واحد قبل قضيتين.

المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال فقالوا: لا شك أنه تعالى يريد الإيمان فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان بمقتضى هذه الآية وإذا كان فاعلاً للإيمان وجب أن يكون فاعلاً للكفر ضرورة أنه لا قائل بالفرق، قال القاضي: ولا يمكن أن يستدل بذلك على أن ما يريده الله تعالى من طاعة الخلق لا بد من أن يقع لأن قوله تعالى: { فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } لا يتناول إلا ما إذا وقع كان فعله دون ما إذا وقع لم يكن فعلاً له هذه ألفاظ القاضي ولا يخفي ضعفها.

المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب لأحد من المكلفين عليه شيء ألبتة، وهو ضعيف لأن الآية دالة على أنه يفعل ما يريد، فلم قلتم: إنه يريد أن لا يعطي الثواب.

المسألة الخامسة: قال القفال: فعال لما يريد على ما يراه لا يعترض عليه معترض ولا يغلبه غالب، فهو يدخل أولياءه الجنة لا يمنعه منه مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم ويعاجل بعضهم العقوبة إذا شاء ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة يفعل من هذه الأشياء ومن غيرهما ما يريد.