التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ
٢٠
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ
٢١
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٢
-التوبة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى ذكر ترجيح الإيمان والجهاد على السقاية وعمارة المسجد الحرام، على طريق الرمز ثم أتبعه بذكر هذا الترجيح على سبيل التصريح في هذه الآية، فقال: إن من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممن اتصف بالسقاية والعمارة. وتلك الصفات الأربعة هي هذه: فأولها الإيمان، وثانيها الهجرة، وثالثها الجهاد في سبيل الله بالمال ورابعها الجهاد بالنفس، وإنما قلنا إن الموصوفين بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة: الروح، والبدن، والمال. أما الروح فلما زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان، فقد وصل إلى مراتب السعادات اللائقة بها. وأما البدن والمال فبسبب الهجرة وقعا في النقصان، وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا معرضين للهلاك والبطلان. ولا شك أن النفس والمال محبوب الإنسان، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول، فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال، وإلا لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة الله تعالى فثبت أن عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلاً إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات الملائكة، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السقاية والعمارة لمجرد الاقتداء بالآباء والأسلاف ولطلب الرياسة والسمعة؟ فثبت بهذا البرهان اليقين صحة قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } [التوبة: 20].

واعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم، ولما ترك ذكر المرجوح، دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق، لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للإنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات.

واعلم أن قوله: { عَندَ ٱللَّهِ } يدل على أن المراد من كون العبد عند الله الاستغراق في عبوديته وطاعته، وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان، وعند هذا يلوح أن الملائكة كما حصلت لهم منقبة العندية في قوله: { { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [الأنبياء: 19] فكذلك الأرواح القدسية البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية، أشرقت بأنوار الجلالة وتجلى فيها أضواء عالم الكمال وترقت من العبدية إلى العندية، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا مشاهدة حقيقة العندية، ولذلك قال: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء:1]

فإن قيل: لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، فكيف قال في وصفهم { أعظم درجة } مع أنه ليس للكفار درجة؟

قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله: { { قُلِ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } } [النمل: 59] وقوله: { { أَذٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ } [الصافات: 62] الثاني: أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات، تنبيهاً على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى. الثالث: أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال، ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنما بطل إيجابهما للثواب في حق الكفار لأن قيام الكفر الذي هو أعظم الجنايات يمنع ظهور ذلك الأثر.

واعلم أنه تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة أعظم درجة عند الله بين تعالى أنهم هم الفائزون وهذا للحصر، والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى: { عِندَ رَبّهِمْ } وهي درجة العندية، وذلك لأن من آمن بالله وعرفه فقل أن يبقى قلبه ملتفتاً إلى الدنيا، ثم عند هذا يحتال إلى إزالة هذه العقدة عن جوهر الروح، وإزالة حب الدنيا لا يتم له إلا بالتفريق بين النفس وبين لذات الدنيا، فإذا دام ذلك التفريق وانتقص تعلقه بحب الدنيا، فهذا التفريق والنقص يحصلان بالهجرة. ثم إنه بعده لا بد من استحقار الدنيا والوقوف على معايبها وصيرورتها في عين العاقل بحيث يوجب على نفسه تركها ورفضها، وذلك إنما يتم بالجهاد لأنه تعريض النفس والمال للهلاك والبوار، ولولا أنه استحقر الدنيا وإلا لما فعل ذلك، وعند هذا يتم ما قاله بعض المحققين وهو أن العرفان مبتدأ من تفريق ونقص وترك ورفض، ثم عند حصول هذه الحالة يصير القلب مشتغلاً بالنظر إلى صفات الجلال والإكرام، وفي مشاهدتها يحصل بذل النفس والمال، فيصير الإنسان شهيداً مشاهداً لعالم الجلال مكاشفاً بنور الجلالة مشهوداً له بقوله تعالى: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوٰنٍ وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } وعند هذا يحصل الانتهاء إلى حضرة الأحد الصمد، وهو المراد من قوله: { عِندَ رَبّهِمْ } وهنا يحق الوقوف في الوصول.

ثم قال تعالى: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوٰنٍ وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }.

واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف، نازلاً إلى الأدون فالأدون، ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين.

أما الأول فنقول: فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان، وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل الله. وقوله: { وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ } إشارة إلى حصول المنافع العظيمة وقوله: { فِيهَا نَعِيمٌ } إشارة إلى كون المنافع خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة، ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات وقوله: { مُّقِيمٌ } عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة. ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات: أولها: { مُّقِيمٌ } وثانيها: قوله: { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } وثالثها: قوله: { أَبَدًا } فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، وذلك هو حد الثواب. وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة. ومن المتكلمين من قال قوله: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } المراد منه خيرات الدنيا وقوله: { وَرِضْوَانٍ لَهُمْ } المراد منه كونه تعالى راضياً عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله: { وَجَنَّـٰتٍ } المراد منه المنافع وقوله: { لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ } المراد منه كون تلك النعم خالصة عن المكدرات، لأن النعيم مبالغة في النعمة وقوله: { مُّقِيمٌ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب.

وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول: المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم }.

واعلم أن الفرح بالنعمة يقع على قسمين: أحدهما: أن يفرح بالنعمة لأنها نعمة. والثاني: أن يفرح بها لا من حيث هي بل من حيث إن المنعم خصه بها وشرفه وإن عجز ذهنك عن الوصول إلى الفرق بين القسمين فتأمل فيما إذا كان العبد واقفاً في حضرة السلطان الأعظم وسائر العبيد كانوا واقفين في خدمته، فإذا رمى ذلك السلطان تفاحة إلى أحد أولئك العبيد عظم فرحه بها فذلك الفرح العظيم ما حصل بسبب حصول تلك التفاحة، بل بسبب أن ذلك السلطان خصه بذلك الإكرام، فكذلك ههنا. قوله: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوٰنٍ } منهم من كان فرحهم بسبب الفوز بتلك الرحمة، ومنهم من لم يفرح بالفوز بتلك الرحمة، وإنما فرح لأن مولاه خصه بتلك الرحمة وحينئذ يكون فرحه لا بالرحمة بل بمن أعطى الرحمة، ثم إن هذا المقام يحصل فيه أيضاً درجات فمنهم من يكون فرحه بالراحم لأنه رحم، ومنهم من يتوغل في الخلوص فينسى الرحمة ولا يكون فرحه إلا بالمولى لأنه هو المقصد، وذلك لأن العبد ما دام مشغولاً بالحق من حيث إنه راحم فهو غير مستغرق في الحق، بل تارة مع الحق وتارة مع الخلق، فإذا تم الأمر انقطع عن الخلق وغرق في بحر نور الحق وغفل عن المحبة والمحنة، والنقمة والنعمة، والبلاء والآلاء، والمحققون وقفوا عند قوله: { يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم } فكان ابتهاجهم بهذا وسرورهم به وتعويلهم عليه ورجوعهم إليه ومنهم من لم يصل إلى تلك الدرجة العالية فلا تقنع نفسه إلا بمجموع قوله: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } فلا يعرف أن الاستبشار بسماع قول ربهم، بل إنما يستبشر بمجموع كونه مبشراً بالرحمة، والمرتبة الثانية هي أن يكون استبشاره بالرحمة وهذه المرتبة هي النازلة عند المحققين. واللطيفة الثانية من لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال: { يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم } وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة. أولها: أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان. والثاني: أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله، فلما كان المبشر ههنا هو أكرم الأكرمين، وجب أن تكون البشارة بخيرات تعجز العقول عن وصفها وتتقاصر الأفهام عن نعتها. والثالث: أنه تعالى سمى نفسه ههنا بالرب وهو مشتق من التربية كأنه قال: الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة. والرابع: أنه تعالى قال: { رَّبُّهُمْ } فأضاف نفسه إليهم، وما أضافهم إلى نفسه. والخامس: أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسه فقال: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم } والسادس: أن البشارة هي الإخبار عن حدوث شيء ما كان معلوم الوقوع، أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة، ألا ترى أن الفقهاء قالوا: لو أن رجلاً قال من يبشرني من عبيدي بقدوم ولدي فهو حر، فأول من أخبر بذلك الخبر يعتق، والذين يخبرون بعده لا يعتقون وإذا كان الأمر كذلك فقوله: { يُبَشِّرُهُمْ } لا بد أن يكون إخباراً عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك، وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن، والإخبار عن حصول بشارة فلا بد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها ألبتة. رزقنا الله تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه.

واعلم أنه تعالى لما قال: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم } بين الشيء الذي به يبشرهم وهو أمور: أولها: قوله: { بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } وثانيها: قوله: { وَرِضْوَانٍ } وأنا أظن والعلم عند الله أن المراد بهذين الأمرين ما ذكره في قوله: { { ٱرْجِعِى إِلَىٰ رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر: 28] والرحمة كون العبد راضياً بقضاء الله وذلك لأن من حصلت له هذه الحالة كان نظره على المبلي والمنعم لا على النعمة والبلاء، ومن كان نظره على المبلي والمنعم لم يتغير حاله، لأن المبلي والمنعم منزه عن التغير.

فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزهاً عن التغير، أما من كان طالباً لمحض النفس كان أبداً في التغير من الفرح إلى الحزن، ومن السرور إلى الغم، ومن الصحة إلى الجراحة، ومن اللذة إلى الألم، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عندما يصير العبد راضياً بقضاء الله فقوله: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة، ويجعله راضياً بقضائه. ثم إنه تعالى يصير راضياً وهو قوله: { وَرِضْوَانٍ } وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله: { رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية، وهي قوله: { وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } وقد سبق شرح هذه المراتب، ولما ذكر هذه الأحوال قال: { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال، ولنختم هذا الفصل ببيان أن أصحابنا يقولون إن الخلود يدل على طول المكث، ولا يدل على التأبيد، واحتجوا على قولهم في هذا الباب بهذه الآية، وهي قوله تعالى: { خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } ولو كان الخلود يفيد التأبيد، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكراراً وأنه لا يجوز.