التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦١
-التوبة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون في رسول الله أنه أذن على وجه الطعن والذم، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرأ عاصم في رواية الأعمش وعبد الرحمن عن أبي عكرمة عنه { أُذُنُ خَيْرٍ } مرفوعين منونين، على تقدير: إن كان كما تقولون إنه أذن. فأذن خير لكم يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم، والباقون { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } بالإضافة، أي هو أذن خير، لا أذن شر، وقرأ نافع { أَذِنَ } ساكنته الذال في كل القرآن، والباقون بالضم وهما لغتان مثل عنق وظفر.

المسألة الثانية: قال ابن عباس رضي الله عنه: أن جماعة من المنافقين، ذكروا النبي صلى الله عليه وسلم بما لا ينبغي من القول فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما نقول، فقال الجلاس بن سويد: بل نقول ما شئنا، ثم نذهب إليه ونحلف أنا ما قلنا، فيقبل قولنا، وإنما محمد أذن سامعة، فنزلت هذه الآية. وقال الحسن: كان المنافقون يقولون ما هذا الرجل إلا أذن، من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له. وروى الأصم أن رجلاً منهم قال لقومه إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن شر من الحمير فسمعها ابن امرأته، فقال: والله إنه لحق وإنك أشر من حمارك، ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال بعضهم: إنما محمد أذن ولو لقيته وحلفت له ليصدقنك، فنزلت هذه الآية على وفق قوله. فقال القائل: يا رسول الله لم أسلم قط قبل اليوم، وإن هذا الغلام لعظيم الثمن علي والله لأشكرنه ثم قال الأصم: أظهر الله تعالى عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها لتكون حجة للرسول ولينزجروا. فقال: { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَـٰتِ }.

ثم قال: { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ } ثم قال: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللَّهَ } إلى غير ذلك من الأخبار عن الغيوب، وفي كل ذلك دلائل على كونه نبياً حقاً من عند الله.

المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى حكى أن من المنافقين من يؤذي النبي، ثم فسر ذلك الإيذاء بأنهم يقولون للنبي أنه أذن، وغرضهم منه أنه ليس له ذكاء ولا بعد غور، بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع، فلهذا السبب سموه بأنه أذن، كما أن الجاسوس يسمى بالعين يقال: جعل فلان علينا عيناً، أي جاسوساً متفحصاً عن الأمور، فكذا ههنا.

ثم إنه تعالى أجاب عنه بقوله { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } والتقدير: هب أنه أذن لكنه خير لكم وقوله: { أُذُنُ خَيْرٍ } مثل ما يقال فلان رجل صدق وشاهد عدل، ثم بين كونه { أُذُنُ خَيْرٍ } بقوله: { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ } جعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام { أُذُنُ خَيْرٍ } فلنبين كيفية اقتضاء هذه المعاني لتلك الخيرية.

أما الأول: وهو قوله: { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } فلأن كل من آمن بالله خائفاً من الله، والخائف من الله لا يقدم على الإيذاء بالباطل.

وأما الثاني: وهو قوله: { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } فالمعنى أنه يسلم للمؤمنين قولهم والمعنى أنهم إذا توافقوا على قول واحد، سلم لهم ذلك القول، وهذا ينافي كونه سليم القلب سريع الاغترار.

فإن قيل: لم عدى الإيمان إلى الله بالباء وإلى المؤمنين باللام؟

قلنا: لأن الإيمان المعدى إلى الله المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر، فعدى بالباء، والإيمان المعدى إلى المؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فيتعدى باللام، كما في قوله: { { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [يوسف: 17] وقوله: { { فَمَا ءامَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } [يونس: 83] وقوله: { { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } [الشعراء: 111] وقوله: { { ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لكم } [الشعراء: 49].

وأما الثالث:وهو قوله: { وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ } فهذا أيضاً يوجب الخيرية لأنه يجري أمركم على الظاهر، ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم، ولا يسعى في هتك أستاركم، فثبت أن كل واحد من هذه الأوصاف الثلاثة يوجب كونه { أُذُنُ خَيْرٍ } ولما بين كونه سبباً للخير والرحمة بين أن كل من آذاه استوجب العذاب الأليم، لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي، ثم إنهم بعد ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور، فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى.

المسألة الرابعة: أما قراءة من قرأ { أُذُنُ خَيْرٍ } بالتنوين في الكلمتين ففيه وجوه:

الوجه الأول: التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد الذي تذكرون، ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن، وهو قوله: { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ } والمعنى أن من كان موصوفاً بهذه الصفات، فكيف يجوز الطعن فيه، وكيف يجوز وصفه بكونه سليم القلب سريع الاغترار؟

الوجه الثاني: أن يضمر مبتدأ، والتقدير: هو أذن خير لكم، أي هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم، لأنه يقبل معاذيركم، ويتغافل عن جهالاتكم، فكيف جعلتم هذه الصفة طعناً في حقه؟

الوجه الثالث: وهو وجه متكلف ذكره صاحب النظم. فقال: { أَذِنَ } وإن كان رفعاً بالابتداء في الظاهر لكن موضعه نصب على الحال وتأويله قل هو أذناً خير إذا كان أذناًفهو خير لكم لأنه يقبل معاذيركم، ونظيره، وهو حافظاً خير لكم، أي هو حال كونه حافظاً خير لكم إلا أنه لما كان محذوفاً وضع الحال مكان المبتدأ تقديره، وهو حافظ خير لكم وإضمار «هو» في القرآن كثير. قال تعالى: { سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌ } أي هم ثلاثة، وهذا الوجه شديد التكلف، وإن كان قد استحسنه الواحدي جداً.

المسألة الخامسة: قرأ حمزة { وَرَحْمَةً } بالجر عطفاً على { خَيْرٌ } كأنه قيل: أذن خير ورحمة، أي مستمع كلام يكون سبباً للخير والرحمة.

فإن قيل: وكل رحمة خير، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير؟

قلنا: لأن أشرف أقسام الخير هو الرحمة، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير، كما في قوله تعالى: { { وَمَلـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ } [البقرة: 98] قال أبو عبيد: هذه القراءة بعيدة لأنه تباعد المعطوف عن المعطوف عليه. قال أبو علي الفارسي: البعد لا يمنع من صحة العطف، ألا ترى أن من قرأ { { وَقِيلِهِ يٰرَبّ } [الزخرف: 88] إنما يحمله على قوله: { { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان: 34] تقديره: وعنده علم الساعة وعلم قيله.

فإن قيل: ما وجه قراءة ابن عامر { وَرَحْمَةً } بالنصب؟

قلنا: هي علة معللها محذوف، والتقدير: ورحمة لكم يأذن إلا أنه حذف، لأن قوله: { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } يدل عليه.