التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ
٢٠
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ
٢١
-الليل

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

فيه مسائل:

المسألة الأولى: { ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ } مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أي ما لأَحد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه كقولك ما في الدار أحداً إلا حماراً، وذكر الفراء فيه وجهاً آخر وهو أن يضمر الإنفاق على تقدير: ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، كقوله: { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ ٱللَّهِ } [البقرة: 272].

المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى بين أن هذا: الأَتقى الذي يؤتي ماله يتزكى لا يؤتيه مكافأة على هدية أو نعمة سالفة، لأن ذلك يجري مجرى أداء الدين، فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب بل إنما يستحق الثواب إذا فعله، لأجل أن الله أمره به وحثه عليه.

المسألة الثالثة: المجسمة تمسكوا بلفظة الوجه والملحدة تمسكوا بلفظة { رَبّهِ ٱلاْعْلَىٰ } وإن ذلك يقضي وجود رب آخر، وقد تقدم الكلام على كل ذلك.

المسألة الرابعة: ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الإمامة"، فقال: الآية الواردة في حق علي عليه السلام: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } [الإنسان: 10,9] والآية الواردة في حق أبي بكر: { إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ٱلأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } فدلت الآيتان على أن كل واحد منهما إنما فعل ما فعل لوجه الله إلا أن آية علي تدل على أنه فعل ما فعل لوجه الله، وللخوف من يوم القيامة على ما قال: { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } وأما آية أبي بكر فإنها دلت على أنه فعل ما فعل لمحض وجه الله من غير أن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب، فكان مقام أبي بكر أعلى وأجل.

المسألة الخامسة: من الناس من قال: ابتغاء الله بمعنى ابتغاء ذاته وهي محال، فلا بد وأن يكون المراد ابتغاء ثوابه وكرامته، ومن الناس من قال: لا حاجة إلى هذا الإضمار، وحقيقة هذه المسألة راجعة إلى أنه هل يمكن أن يحب العبد ذات الله، أو المراد من هذه المحبة محبة ثوابه وكرامته، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في تفسير قوله: { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } [البقرة: 165].

المسألة السادسة: قرأ يحيـى بن وثاب: { إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ } بالرفع على لغة من يقول: ما في الدار أحد إلا حماراً وأنشد في اللغتين، قوله:

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

أما قوله: { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } فالمعنى أنه وعد أبا بكر أن يرضيه في الآخرة بثوابه، وهو كقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 5] وفيه عندي وجه آخر، وهو أن المراد أنه ما أنفق إلا لطلب رضوان الله، ولسوف يرضى الله عنه، وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه، وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين على ما قال: { { رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر: 28] والله سبحانه وتعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.