التفاسير

< >
عرض

وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ
٧
-الضحى

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

فاعلم أن بعض الناس ذهب إلى أنه كان كافراً في أول الأمر، ثم هداه الله وجعله نبياً، قال الكلبي: { وجدك ضالاً } يعني كافراً في قوم ضلال فهداك للتوحيد، وقال السدي: كان على دين قومه أربعين سنة، وقال مجاهد: وجدك ضالاًّ عن الهدى لدينه واحتجوا على ذلك بآيات أخر منها قوله: { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ } [الشورى: 52] وقوله: { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ } [يوسف: 3] وقوله: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65] فهذا يقتضي صحة ذلك منه، وإذا دلت هذه الآية على الصحة وجب حمل قوله: { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ } عليه، وأما الجمهور من العلماء فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما كفر بالله لحظة واحدة، ثم قالت المعتزلة: هذا غير جائز عقلاً لما فيه من التنفير، وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلاً لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافراً فيرزقه الله الإيمان ويكرمه بالنبوة، إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع وهو قوله تعالى: { مَا ضَلَّ صَـٰحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } [النجم: 2] ثم ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً كثيرة أحدها: ما روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب: ووجدك ضالاًّ عن معالم النعمة وأحكام الشريعة غافلاً عنها فهداك إليها، وهو المراد من قوله: { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ } [الشورى: 52] وقوله: { { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ } [يوسف: 3] وثانيها: ضل عن مرضعته حليمة حين أرادت أن ترده إلى جده حتى دخلت إلى هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام، وسمعت صوتاً يقول: إنما هلاكنا بيد هذا الصبي، وفيه حكاية طويلة وثالثها: ما روي مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال: "ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع، كاد الجوع يقتلني، فهداني الله" ذكره الضحاك، وذكر تعلقه بأستار الكعبة، وقوله:

يا رب رد ولدي محمدا اردده ربي واصطنع عندي يداً

فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة وبين يديه محمد وهو يقول: لا ندري ماذا نرى من ابنك، فقال عبد المطلب ولم؟ قال: إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت الناقة، كأن الناقة تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى‍! وقال ابن عباس: رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه ورابعها: أنه عليه السلام لما خرج مع غلام خديجة ميسرة أخذ كافر بزمام بعيره حتى ضل، فأنزل الله تعالى جبريل عليه السلام في صورة آدمي، فهداه إلى القافلة، وقيل: إن أبا طالب خرج به إلى الشأم فضل عن الطريق فهداه الله تعالى وخامسها: يقال: ضل الماء في الليل إذا صار مغموراً، فمعنى الآية كنت مغموراً بين الكفار بمكة فقواك الله تعالى حتى أظهرت دينه وسادسها: العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة، كأنه تعالى يقول: كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله ومعرفته إلا أنت، فأنت، شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالاً فهديت بك الخلق، ونظيره قوله عليه السلام: "الحكمة ضالة المؤمن" وسابعها: ووجدك ضالاً عن معرفة الله تعالى حين كنت طفلاً صبياً، كما قال: { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } [النحل: 78] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة، والمراد من الضال الخالي عن العلم لا الموصوف بالاعتقاد الخطأ وثامنها: كنت ضالاً عن النبوة ما كنت تطمع في ذلك ولا خطر شيء من ذلك في قلبك، فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل فهديتك إلى النبوة التي ما كنت تطمع فيها ألبتة وتاسعها: أنه قد يخاطب السيد، ويكون المراد قومه فقوله: { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ } أي وجد قومك ضلالاً، فهداهم بك وبشرعك وعاشرها: وجدك ضالاًّ عن الضالين منفرداً عنهم مجانباً لدينهم، فكلما كان بعدك عنهم أشد كان ضلالهم أشد، فهداك إلى أن اختلطت بهم ودعوتهم إلى الدين المبين الحادي عشر: وجدك ضالاً عن الهجرة، متحيراً في يد قريش متمنياً فراقهم وكان لا يمكنك الخروج بدون إذنه تعالى، فلما أذن له ووافقه الصديق عليه وهداه إلى خيمة أم معبد، وكان ما كان من حديث سراقه، وظهور القوة في الدين كان ذلك المراد بقوله: { فَهَدَىٰ }، الثاني عشر: ضالاًّ عن القبلة، فإنه كان يتمنى أن تجعل الكعبة قبلة له وما كان يعرف أن ذلك هل يحصل له أم لا، فهداه الله بقوله: { فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [البقرة: 144] فكأنه سمى ذلك التحير بالضلال الثالث عشر: أنه حين ظهرها له جبريل عليه السلام في أول أمره ما كان يعرف أهو جبريل أم لا، وكان يخافه خوفاً شديداً، وربما أراد أن يلقي نفسه من الجبل فهداه الله حتى عرف أنه جبريل عليه السلام الرابع عشر: الضلال بمعنى المحبة كما في قوله: { إِنَّكَ لَفِى ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ } [يوسف: 95] أي محبتك، ومعناه أنك محب فهديتك إلى الشرائع التي بها تتقرب إلى خدمة محبوبك الخامس عشر: ضالاًّ عن أمور الدنيا لا تعرف التجارة ونحوها، ثم هديتك حتى ربحت تجارتك، وعظم ربحت حتى رغبت خديجة فيك، والمعنى أنه ما كان لك وقوف على الدنيا، وما كنت تعرف سوى الدين، فهديتك إلى مصالح الدنيا بعد ذلك السادس عشر: { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ } أي ضائعاً في قومك؛ كانوا يؤذونك، ولا يرضون بك رعية، فقوي أمرك وهداك إلى أن صرت آمراً والياً عليهم السابع عشر: كنت ضالاً ما كنت تهتدي على طريق السموات فهديتك إذ عرجت بك إلى السموات ليلة المعراج الثامن عشر: ووجدك ضالاًّ أي ناسياً لقوله تعالى: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } [البقرة: 282] فهديتك أي ذكرتك، وذلك أنه ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة، فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال: "لا أحصي ثناء عليك" التاسع عشر: أنه وإن كان عارفاً بالله بقلبه إلا أنه كان في الظاهر لا يظهر لهم خلافاً، فعبر عن ذلك بالضلال العشرون: روى علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته، فإني قلت ليلة لغلام من قريش، كان يرعى معي بأعلى مكة، لو حفظت لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشبان، فخرجت أريد ذلك حتى أتيت أول دار من دور مكة، فسمعت عزفاً بالدفوف والمزامير، فقالوا فلان ابن فلان يزوج بفلانة، فجلست أنظر إليهم وضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس،قال فجئت صاحبي، فقال ما فعلت؟ فقلت ما صنعت شيئاً، ثم أخبرته الخبر، قال: ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله تعالى برسالته" .