التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ
٦١
-هود

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَإِلَىٰ ثَمُودَ } أي أرسلنا إلى ثمود { أَخَاهُمْ } أي في النسب. { صَالِحاً }. وقرأ يحيـى بن وثّاب «وَإِلَى ثَمُودٍ» بالتنوين في كل القرآن؛ وكذلك روي عن الحسن. وٱختلف سائر القرّاء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع. وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف؛ إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال النحاس: الذي قال أبو عبيدة ـرحمه الله ـ من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود؛ لأن ثموداً يقال له حيّ؛ ويقال له قبِيلة، وليس الغالب عليه القبِيلة، بل الأمر على ضدّ ما قال عند سيبويه. والأجود عند سيبويه فيما لم يقُل فيه بنو فلان الصَّرف؛ نحو قريش وثقيف وماأشبههما، وكذلك ثمود، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى. والتأنيث جيد بالغ حسن. وأنشد سيبويه في التأنيث:

غَلبَ المساميحَ الوليدُ سَمَاحةًوكَفَى قريشَ المعضِلاتِ وسادَهَا

الثانية: قوله تعالى: { قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } تقدّم. { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ } أي ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدّم في «البقرة» و«الأنعام» وهم منه. وقيل: أنشأكم في الأرض. ولا يجوز إدغام الهاء من «غيره» في الهاء من «هو» إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج. { وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي جعلكم عُمّارها وسكّانها. قال مجاهد: ومعنى «اسْتَعْمَرَكُمْ» أعمركم من قوله: «أعْمر فلان فلاناً داره؛ فهي له عُمْرى. وقال قَتَادة: أسكنكم فيها؛ وعلى هذين القولين تكون ٱستفعل بمعنى أفعل؛ مثل ٱستجاب بمعنى أجاب. وقال الضّحاك: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف. ٱبن عباس: أعاشكم فيها. زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار. وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها.

الثالثة: قال ٱبن العربيّ قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب؛ قال القاضي أبو بكر: تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان: منها؛ ٱستفعل بمعنى طلب الفعل كقوله: ٱستحملته أي طلبت منه حملاناً؛ وبمعنى ٱعتقد، كقولهم: استسهلت هذا الأمر ٱعتقدته سهلاً، أو وجدته سهلاً، وٱستعظمته أي ٱعتقدته عظيماً ووجدته؛ ومنه استفعلت بمعنى أصبت، كقولهم: ٱستجدته أي أصبته جيداً: ومنها بمعنى فَعل؛ كقوله: قرّ في المكان وٱستقرّ؛ وقالوا وقوله: «يَسْتَهْزِئُونَ» و«يَسْتَسْخِرُونَ» منه؛ فقوله تعالى: «اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» خلقكم لعمارتها، لا على معنى استجدته وٱستسهلته؛ أي أصبته جيداً وسهلاً، وهذا يستحيل في الخالق، فيرجع إلى أنه خلق؛ لأنه الفائدة، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازاً؛ ولا يصح أن يقال: إنه طلبٌ من الله تعالى لعمارتها، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه، أما إنه يصح أن يقال: أنه ٱستدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ ٱستفعل، وهو ٱستدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمراً، وطلب للفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى (رغبة).

قلت: لم يذكر ٱستفعل بمعنى أفعل، مثل قوله: استوقد بمعنى أوقد، وقد ذكرناه وهي:

الرابعة: ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في «البقرة» في السُّكنى والرُّقْبى. وأما العُمْرى فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تمليك لمنافع الرقبة حياةَ المُعْمَر مدة عمره؛ فإن لم يذكر عقباً فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها أو لورثته هذا قول القاسم بن محمد ويزيد بن قُسيط والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب مالك، وأحد أقوال الشافعي، وقد تقدّم في «البقرة» حجة هذا القول. الثاني: أنها تمليك الرقبة ومنافعها وهي هبة مبتولة؛ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثّوري والحسن بن حيّ وأحمد بن حنبل وٱبن شُبْرمة وأبي عُبيد؛ قالوا: من أعمر رجلاً شيئاً حياته فهو له حياته، وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد ملك رقبتها، وشرط المعطي الحياة والعمر باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرى جائزة" . و "العمرى لمن وُهِبت له" . الثالث: إن قال عُمرك ولم يذكر العقب كان كالقول الأوّل: وإن قال لعقبك كان كالقول الثاني؛ وبه قال الزهريّ وأبو ثور وأبو سلَمة بن عبد الرحمن وابن أبي ذئب، وقد رُوي عن مالك؛ وهو ظاهر قوله في الموطأ. والمعروف عنه وعن أصحابه أنها ترجع إلى المُعْمِر؛ إذا انقرض عقب المُعْمَر؛ إن كان المُعْمِر حيّا، وإلا فإلى من كان حيّا من ورثته، وأولى الناس بميراثه. ولا يملك المُعْمَر بلفظ العمرى عند مالك وأصحابه رقبة شيء من الأشياء، وإنما يملك بلفظ العُمْرى المنفعة دون الرقبة. وقد قال مالك في الحبس أيضاً: إذا حبس على رجل وعقبه أنه لا يرجع إليه. وإن حبس على رجل بعينه حياته رجع إليه، وكذلك العُمْرى قياساً، وهو ظاهر الموطأ. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُّما رجلٍ أعْمر رجلاً عُمْرى له ولعقبِه فقال قد أعطيتُكَها وعقِبَك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطِيها وأنها لا ترجع إلى صاحبها من أجلِ أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" . وعنه قال: إن العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبِك، فأما إذا قال: هي لك ما عِشتَ فإنها ترجع إلى صاحبها؛ قال مَعْمَر: وبذلك كان الزّهري يفتي.

قلت: معنى القرآن يجري مع أهل القول الثاني؛ لأن الله سبحانه قال: «وَٱسْتَعْمَرَكُمْ» بمعنى أعمركم؛ فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن؛ وبالعكس الرجل الفاجر؛ فالدنيا ظرف لهما حياة وموتاً. وقد يقال: إن الثناء الحسن يجري مجرى العقِب. وفي التنزيل: { { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِين } َ } [الشعراء: 84] أي ثناء حسناً. وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِين } [الصافات: 77] وقال: { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } [الصافات: 113].

الخامسة: قوله تعالى: { فَٱسْتَغْفِرُوهُ } أي سلوه المغفرة من عبادة الأصنام. { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي ٱرجعوا إلى عبادته. { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } أي قريب الإجابة لمن دعاه. وقد مضى في «البقرة» عند قوله: { { فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ } [البقرة:186] القولُ فيه.