التفاسير

< >
عرض

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً
٣
-النصر

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ } أي إذا صليت فأكثر من ذلك. وقيل: معنى سبح: صَلّ؛ عن ابن عباس. «بِحَمْدِ ربك» أي حامداً له على ما آتاك من الظفر والفتح. «واسْتَغْفِرْهُ» أي سلِ الله الغفران. وقيل: «فسبح» المراد به: التنزيه؛ أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له. «واسْتَغْفِرْه» أي سَلِ الله الغفران مع مداومة الذكر. والأوّل أظهر. روى الأئمة (واللفظ للبخاريّ) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } إلا يقول: سُبْحانَكَ رَبَّنا وبِحَمْدك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي" . وعنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سُبحانكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبِحَمدِك، اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي" . يتأوّل القرآن. وفي غير الصحيح: وقالت أمّ سَلَمة: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: "سُبْحانَ اللَّهِ وبحمدِهِ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إليه ـ قال ـ فإنّي أُمِرت بها ـ ثم قرأ { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ }" إلى آخرها. وقال أبو هريرة: اجتهدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد نزولها، حتى تَوَرَّمت قدماه، ونَحَل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه. وقال عِكرمة: لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أشد اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها. وقال مقاتل: "لما نزلت قرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرِحوا واستبشروا، وبكى العباس؛ فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما يُبْكيكَ يا عَمُّ؟ قال: نُعِيَتْ إليكَ نَفْسُك. قال: إنه لكما تقول" ؛ فعاش بعدها ستين يوماً، ما رُئِي فيها ضاحكاً مستبشراً. وقيل: نزلت في مِنًى بعد أيام التشريق، في حِجة الوداع، فبكى عُمر والعباس، فقيل لهما: إن هذا يوم فرح، فقالا: بل فيه نَعْي النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقتما، نُعِيت إليّ نفسي" . وفي البخاريّ وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم. قال: فوجِد بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله! فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } فقالوا: أمر الله جل وعز نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه. فقال: ما تقول يا ابن عباس؟ قلت: ليس كذلك، ولكن أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم حضورَ أجله، فقال: { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ }، فذلك علامة موتك. { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا }. فقال عمر رضي الله عنه: تلومونني عليه؟ وفي البخاريّ فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. ورواه الترمذيّ، قال: كان عمر يسألني مع أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتسأله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه من حيث نعلم. فسأله عن هذه الآية: { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ }. فقلت: إنما هو أجل رسوِل الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه إياه؛ وقرأ السورة إلى آخرها. فقال له عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم. قال: هذا حديث حسن صحيح. فإن قيل: فماذا يغفر للنبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار؟ قيل له: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "رَبِّ اغفرْ لِي خَطيئتَي وجَهْلِي، وإسْرافِي في أَمْرِي كُلِّه، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفْر لي خَطَئي وعَمْدِي، وجهلِي وهَزْلي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخرتُ، وما أعلَنْت وما أسْرَرْت، أنت المقدِّم وأنت المُوَخِّر، إنكَ على كلِّ شيءٍ قَدِير" . فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذُنُوباً. ويحتمل أن يكون بمعنى: كُنْ متعَلقاً به، سائلاً راغباً، متضرعاً على رؤية التقصير في أداء الحقوق؛ لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال. وقيل: الاستغفار تَعَبُّد يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبداً. وقيل: ذلك تنبيه لأمته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار. وقيل: «واستغفره» أي استغفر لأمتك. { إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا }: أي على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم. وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره؟ روى مسلم عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثر من قول: سُبحَانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، أسْتغفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إليهِ. قالت: فقلت يا رسول الله، أراك تكثر من قول سُبْحان اللَّهِ وبِحَمْدِه، أستغفر الله وأتوب إليه؟ فقال: خَبَّرَنِي رَبِّي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأَيتها أكثرت من قول سُبْحان اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } ـ فتح مكة ـ { وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا }" . وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بِمِنًى في حِجَّة الوداع، ثم نزلت { { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة: 3] فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً. ثم نزلت آية الكَلاَلة، فعاش بعدها خمسين يوماً. ثم نزل: { { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة: 128] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً. ثم نزل { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [البقرة: 281] فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا مما تقدّم في «البقرة» بيانه، والحمد لله.