قوله تعالى: { فِي جِيدِهَا } أي عنقِها. وقال امرؤ القيس:
وجِيدٍ كجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بفاحشٍإذَا هِي نَصَّتْهُ ولاَ بِمُعَطلِ
{ حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } أي من لِيف؛ قال النابغة: مَقْذُوفةٍ بدَخِيسِ النَّحْضِ بازِلُهاله صَرِيفٌ صَرِيفُ القَعْوِ بالمَسَد
وقال آخر: يا مَسَدَ الخُوصِ تَعَوَّذْ مِنِّيإِنْ كُنْتُ لَدْناً ليِّناً فإنِّي
مـا شِـئْـتَ مِـنْ أَشْمَـطَ مُقْـسئِـنَّ
وقد يكون من جلود الإبل، أو من أوبارها؛ قال الشاعر: ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِلَسْنَ بِأنْيابٍ ولاَ حَقَائِقِ
وجمع الجيد أجياد، والمسدِ أمساد. أبو عبيدة: هو حَبْل يكون من صوف. قال الحسن: هي حبال من شجر تَنبتُ باليمن تسمى المَسَد، وكانت تُفْتل. قال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا؛ فكانت تُعَيِّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف، فخنقها الله جل وعزّ به فأهلكها؛ وهو في الآخرة حبْل من نار. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } قال: سلسلة ذرْعُها سبعون ذراعاً ـ وقاله مجاهد وعروة بن الزبير: تَدْخُل مِنْ فيها، وتَخْرُج من أسفلها، ويُلْوَى سائِرها على عنقها. وقال قتادة. «حبْل مِن مَسَدٍ» قال: قِلادة من وَدَع. الوَدَع: خرز بيض تخرج من البحر، تتفاوت في الصغر والكبر. قال الشاعر: والحِلم حِلْمُ صبِيٍّ يَمْرِث الوَدَعَهْ
والجمع: وَدَعات. الحسن: إنما كان خَرَزاً في عنقها. سعيد بن المسيب: كانت لها قِلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللاتِ والعُزَّى لأنفِقنها في عداوة محمد. ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة. وقيل: إن ذلك إشارة إلى الخِذلان؛ يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء، كالمربوط في جيده بحبل من مسد. والمَسَد: الفتل. يقال: مَسَد حَبْلَه يَمْسِده مَسْداً؛ أي أجاد فتله. قال: يَمْسِـد أَعْلَى لحمِهِ ويأرِمُهْ
يقول: إن البقل يقوّي ظهر هذا الحمار ويشدّه. ودابة مَمْسودة الخَلْق: إذا كانت شديدة الأَسْر. قال الشاعر: ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانِقِصُهْبٍ عِتاقٍ ذاتِ مُخٍّ زاهِقِ
لَـسْنَ بـأنـيـابٍ ولاَ حَـقَـائِـق
ويروى: ولا ضـعـافٍ مُـخُّـهُـنَّ زاهِـقِ
قال الفراء: هو مرفوع والشعر مُكْفأ. يقول: بل مخهن مكتنِز؛ رفعه على الابتداء. قال: ولا يجوز أن يريد ولا ضعافٍ زاهقٍ مخهنّ. كما لا يجوز أن تقول: مررت برجل أبوه قائمٍ؛ بالخفض. وقال غيره: الزاهق هنا: بمعنى الذاهب؛ كأنه قال: ولا ضعافً مُخَّهُنَّ، ثم ردّ الزاهق. على الضعاف. ورجل ممسود: أي مجدول الخلق. وجارية حسنة المَسْد والعَصْبِ والجَدْلِ والأَرْم؛ وهي ممسودة ومعصوبة ومجدولة ومَأرومة. والمِساد، على فِعال: لغة في المِسَاب، وهي نِحى السمن، وسِقاء العسل. قال جميعه الجوهريّ. وقد اعْتُرِض فقيل: إن كان ذلك حبلها الذي تحتطب به، فكيفَ يبقى في النار؟ وأجيب عنه بأن الله عزّ وجلّ قادر على تجديده كلما احترق. والحكم ببقاء أبي لهب وامرأته في النار مشروط ببقائهما على الكفر إلى الموافاة؛ فلما ماتا على الكفر صدق الإخبار عنهما. ففيه معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم. فامرأته خنقها الله بحبلها، وأبو لهب رماه الله بالعَدَسة بعد وقعة بدر بسبع ليال، بعد أن شَجَّتْه أمّ الفضل. وذلك أنه لما قدم الحَيْسُمانُ مكةَ يخبر خبر بدر، قال له أبو لهب: أَخْبرني خبر الناس. قال: نعم، والله ما هو إلا أَن لقِينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يضعون السلاح منا حيث شاؤوا، ومع ذلك ما لَمَسْتُ الناس. لقِينا رجالاً بِيضاً على خيل بُلْق، لا والله ما تُبْقِي منا؛ يقول: ما تُبْقِي شيئاً. قال أبو رافع: وكنت غلاماً للعباس أَنحِت الأَقداح في صُفَّةِ زمزم، وعندي أمّ الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، فرفعت طُنُبَ الحجرة، فقلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب وجهي ضَرْبة مُنْكرة، وثَاوَرْتُهُ، وكنت رجلاً ضعيفاً، فاحتملني، فضرب بي الأرض، وبَرَك على صدري يضْربني. وتقدّمت أمّ الفضل إلى عمود من عُمُد الحُجْرة، فتأخذه وتقول: استضعفتَه أن غاب عنه سيده! وتضربه بالعمود على رأسه فتفلِقُه شَجَّةٌ مُنْكَرة. فقام يجر رجليه ذليلاً، ورماه الله بالعَدَسة، فمات، وأقام ثلاثة أيام لم يُدْفن حتى أنتن؛ ثم إن ولده غَسّلوه بالماء، قَذْفاً من بعيد، مخافة عَدْوَى العَدَسة. وكانت قريشٌ تَتَّقيها كما يُتَّقَى الطاعون. ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رَضموا عليه الحجارة.