التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ
٢١
وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ
٢٢
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ
٢٣
سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ
٢٤
-الرعد

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قَتَادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } قيل: في قطع الرَّحم. وقيل: في جميع المعاصي. { وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ }. سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة؛ ومن نوقش الحساب عُذّب. وقال ابن عباس وسعيد بن جُبَير: معنى. «يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ» الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم. الحسن: هو صلة محمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل رابعاً: أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح؛ «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» فيما أمرهم بوصله، «وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ» في تركه؛ والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا، وبالله توفيقنا.

قوله تعالى: { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } قيل: «الَّذِينَ» مستأنف؛ لأن «صَبَرُوا» ماض فلا ينعطف على «يُوفونَ». وقيل: هو من وصف مَن تقدّم، ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي، وتارة بلفظ المستقبل؛ لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا؛ ولما كان «الَّذِينَ» يتضمن الشرط (و) الماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك؛ ولهذا قال: «الَّذِينَ يُوفُونَ» ثم قال: «وَالَّذِينَ صَبَرُوا» ثم عطف عليه فقال: «وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةِ» قال ٱبن زيد: صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب. وقال أبو عِمْران الْجَوْني: صبروا على دينهم ابتغاء وجه الله. { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } أدّوها بفروضها وخشوعها في مواقيتها. { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } يعني الزكاة المفروضة؛ عن ابن عباس، وقد مضى القول في هذا في «البقرة» وغيرها. { وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ } أي يدفعون بالعمل الصالح السَّيىء من الأعمال، قاله ابن عباس. ٱبن زيد: يدفعون الشر بالخير. سعيد بن جُبير: يدفعون المنكر بالمعروف. الضّحاك: يدفعون الفحش بالسلام. جُوَيبِر: يدفعون الظلم بالعفو. ٱبن شجرة: يدفعون الذنب بالتوبة. القُتَبي: يدفعون سفه الجاهل بالحلم؛ فالسّفه السّيئة، والحلم الحسنة. وقيل: إذا هموا بسيئة رجعوا عنها واستغفروا. وقيل: يدفعون الشرك بشهادة أن لا إلٰه إلا الله؛ فهذه تسعة أقوال، معناها كلها متقارب، والأول يتناولها بالعموم؛ ونظيره: { { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114] ومنه قوله عليه السلام لمعاذ: "وَأَتْبِعْ السّيئة الحَسَنَة تَمْحُهَا وخَالِق الناسَ بِخُلُق حَسَن" . قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } أي عاقبة الآخرة، وهي الجنة بدل النار، والدار غداً داران: الجنة للمطيع، والنار للعاصي؛ فلما ذكر وصف المطيعين فدارهم الجنة لا محالة. وقيل: عنى بالدار دار الدنيا؛ أي لهم جزاء ما عملوا من الطاعات في دار الدنيا.

قوله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } أي لهم جنات عدن؛ فـ«ـجَنَّاتُ عَدْنٍ» بدل من «عُقْبَى» ويجوز أن تكون تفسيراً لـ«ـعُقْبَى الدَّارِ» أي لهم دخول جنات عدن؛ لأن «عُقْبَى الدَّارِ» حَدَث و«جَنَّاتُ عَدْنٍ» عين، والحدث إنما يفسر بحدَث مثله؛ فالمصدر المحذوف مضاف إلى المفعول. ويجوز أن يكون «جَنَّاتُ عَدْنٍ» خبر ابتداء محذوف. و«جَنَّاتُ عَدْنٍ» وسط الجنة وقَصَبتها، وسقفها عرش الرحمن؛ قاله القُشَيري أبو نصر عبد الملك. وفي صحيح البخاري: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمٰن ومنه تُفَجّر أنهار الجنة" فيحتمل أن يكون «جنات» كذلك إن صحّ فذلك خبر. وقال عبد الله بن عمرو: إن في الجنة قصراً يقال له عَدْن، حوله البُرُوج والمروج؛ فيه ألف باب، على كل باب خمسة آلاف حِبَرَة لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد. و«عدن» مأخوذ من عَدَن بالمكان إذا أقام فيه؛ على ما يأتي بيانه في سورة «الكهف» إن شاء الله تعالى. { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } يجوز أن يكون معطوفاً على «أُولَئِكَ» المعنى: أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم لهم عقبى الدار. ويجوز أن يكون معطوفاً على الضمير المرفوع في: «يَدْخُلُونَهَا» وحسن العطف لما حال الضمير المنصوب بينهما. ويجوز أن يكون المعنى: يدخلونها ويدخلها من صلح من آبائهم؛ أي من كان صالحاً، لا يدخلونها بالأنساب. ويجوز أن يكون موضع «مَنْ» نصباً على تقدير: يدخلونها مع من صلح من آبائهم، وإن لم يعمل مثل أعمالهم يُلحقه الله بهم كرامة لهم. وقال ٱبن عباس: هذا الصلاح الإيمان بالله والرسول، ولو كان لهم مع الإيمان طاعات أخرى لدخلوها بطاعتهم لا على وجه التبعيّة. قال القُشَيريّ: وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من الإيمان، فالقول في ٱشتراط العمل الصالح كالقول في ٱشتراط الإيمان. فالأظهر أن هذا الصلاح في جملة الأعمال، والمعنى: أن النعمة غَداً تَتمّ عليهم بأن جعلهم مجتمعين مع قراباتهم في الجنة، وإن دخلها كل إنسان بعمل نفسه؛ بل برحمة الله تعالى.

قوله تعالى: { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } أي بالتحف والهدايا من عند الله تكرمة لهم. { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } أي يقولون: سلام عليكم؛ فأضمر القول، أي قد سلمتم من الآفات والمحن. وقيل: هو دعاء لهم بدوام السلامة، وإن كانوا سالمين، أي سلمكم الله، فهو خبر معناه الدعاء؛ ويتضمن الاعتراف بالعبودية. { بِمَا صَبَرْتُمْ } أي بصبركم؛ فـ«ـما» مع الفعل بمعنى المصدر، والباء في «بما» متعلقة بمعنى. «سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ» ويجوز أن تتعلق بمحذوف؛ أي هذه الكرامة بصبركم، أي على أمر الله تعالى ونهيه؛ قاله سعيد بن جُبَير. وقيل: على الفقر في الدنيا؛ قاله أبو عِمران الجونيّ. وقيل: على الجهاد في سبيل الله؛ كما روي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون من يدخل الجنة من خلق الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: المجاهدون الذين تُسدّ بهم الثغور وتُتّقى بهم المكاره فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" . وقال محمد بن إبراهيم: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان؛ وذكره الْبَيْهَقِيّ عن أبي هُريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الشهداء، فَإِذَا أَتَى فُرْضَة الشِّعْب يقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" . ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله. وقال الحسن البصريرحمه الله : «بِمَا صَبَرْتُمْ» عن فضول الدنيا. وقيل: «بِمَا صَبَرْتُمْ» على ملازمة الطاعة، ومفارقة المعصية؛ قال معناه الفُضَيْل بن عِيَاض. ابن زيد: «بِمَا صَبَرْتُمْ» عما تحبونه إذا فقدتموه. ويحتمل سابعاً: «بِمَا صَبَرْتُمْ» عن اتباع الشهوات. وعن عبد الله بن سَلاَم وعلي بن الحسين رضي الله عنهم (أنهما قالا): إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم أهل الصبر؛ فيقوم ناس من الناس فيقال لهم: ٱنطلقوا إلى الجنة فتتلقّاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة؛ قالوا: قبل الحساب؟ قالوا نعم! فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبّرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبّرناها عن معاصي الله وصبّرناها على البلاء والمحن في الدنيا. قال علي بن الحسين: فتقول لهم الملائكة: ٱدخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وقال ٱبن سَلاَم: فتقول لهم الملائكة: «سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ». «فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها؛ عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه؛ فالعقبى على هذا ٱسم، و«الدار» هي الدنيا. وقال أبو عِمران الْجَوْني: «فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» الجنة عن النار. وعنه: «فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» الجنة عن الدنيا.