التفاسير

< >
عرض

وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ
٤٢
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ
٤٣
-الرعد

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم. { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضرّ إلا بإذنه. وقيل؛ فللَّهِ خير المكر؛ أي يجازيهم به. { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } من خير وشر، فيجازي عليه. { وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ } كذا قراءة نافع وٱبن كثير وأبي عمرو. الباقون: «الْكُفَّارُ» على الجمع. وقيل: عنى (به) أبو جهل. { لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ } أي عاقبة دار الدنيا ثواباً وعقاباً، أو لِمن الثواب والعقاب في الدّار الآخرة؛ وهذا تهديد ووعيد.

قوله تعالى: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } قال قَتَادة: هم مشركو العرب؛ أي لست بنبيّ ولا رسول، وإنما أنت متقوِّل؛ أي لما لم يأتهم بما ٱقترحوا قالوا ذلك. { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ } أي قل لهم يا محمد: { كَفَىٰ بِٱللَّهِ } أي كفى الله { شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } بصدقي وكذبكم. { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } وهذا احتجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب ـ من آمن منهم ـ في التفاسير. وقيل: كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سَلاَم وسَلْمان الفارسيّ وتميم الداريّ والنجاشيّ وأصحابه؛ قاله قَتَادة وسعيد بن جُبَير. وروى الترمذيّ عن ابن أخي عبد الله بن سَلاَم قال: لما أريد (قتل) عثمان جاء عبد الله بن سَلاَم فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نُصرتك؛ قال: ٱخرج إلى الناس فاطردهم عني، فإنك خارج خير لي من داخل؛ (قال) فخرج عبد الله بن سَلاَم إلى الناس فقال: أيها الناس! إنه كان ٱسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، ونزلت فيّ آيات من كتاب الله؛ فنزلت فيّ: { { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأحقاف: 10] ونزلت فيّ: { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } الحديث. وقد كتبناه بكماله في كتاب «التذكرة». وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وكان اسمه في الجاهلية حصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله. وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جُبَيْر { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ }؟ قال: هو عبد الله بن سَلاَم.

قلت: وكيف يكون عبد الله بن سَلاَم وهذه السورة مكية وٱبن سَلاَم ما أسلم إلا بالمدينة؟ٰ ذكره الثعلبي. وقال القُشَيري: وقال ٱبن جُبَير السورة مكية وٱبن سَلاَم أسلم بالمدينة بعد هذه السورة؛ فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سَلاَم؛ فمن عنده علم الكتاب جبريل؛ وهو قول ٱبن عباس. وقال الحسن ومجاهد والضّحاك: هو الله تعالى؛ وكانوا يقرؤون «ومِن عِندِهِ عِلْمُ الْكِتَابِ» وينكرون على من يقول: هو عبد الله بن سَلاَم وسَلْمان؛ لأنهم يَرَوْن أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: «ومِنْ عِندِه عِلم الكِتابِ» وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليمانيّ أنه قرأ كذلك ـ «ومِن عِندِهِ» بكسر الميم والعين والدال «عُلم الكِتابُ» بضم العين ورفع الكتاب. وقال عبد الله بن عطاء: قلت لأبي جعفر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سَلاَم فقال: إنما ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وكذلك قال محمد بن الحنفية. وقيل: جميع المؤمنين، والله أعلم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما من قال إنه عليّ فعوّل على أحد وجهين: إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك؛ بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها" وهو حديث باطل؛ النبيّ صلى الله عليه وسلم مدينة علم وأصحابه أبوابها؛ فمنهم الباب المنفسح، ومنهم المتوسط، على قدر منازلهم في العلوم. وأما من قال إنهم جميع المؤمنين فصدق؛ لأن كل مؤمن يَعْلَم الكتاب، ويُدرك وجه إعجازه، ويشهد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بصدقه.

قلت: فالكتاب على هذا هو القرآن. وأما من قال هو عبد الله بن سَلاَم فعوّل على حديث الترمذيّ؛ وليس يمتنع أن ينزل في عبد الله بن سَلاَم شيئاً ويتناول جميع المؤمنين لفظاً؛ ويعضده من النظام أن قوله تعالى: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني قريشاً؛ فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوّة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان. قال النحاس: وقول من قال هو عبد الله بن سَلاَم وغيره يحتمل أيضاً؛ لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمراً مؤكداً؛ والله أعلم بحقيقة ذلك.