التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
٤٨
وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ
٤٩
سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ
٥٠
لِيَجْزِىَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٥١
هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٥٢
-إبراهيم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } أي ٱذكر يوم تبدّل الأرض، فتكون متعلقة بما قبله. وقيل: هو صفة لقوله: «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ». واختلف في كيفية تبديل الأرض، فقال كثير من الناس: إن تبدّل الأرض عبارة عن تغير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها، ومدّ أرضها؛ ورواه ابن مسعود رضي الله عنه؛ خرجه ٱبن ماجه في سننه وذكره ابن المبارك من حديث شَهْر بن حَوْشَب، قال حدّثني ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة مُدَّت الأرضُ مدَّ الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا؛ وذكر الحديث. وروي مرفوعاً من حديث أبي هُريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تبدّل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدّها مدّ الأديم العُكَاظيّ لا ترى فيها عِوجاً ولا أَمْتاً ثم يزجر الله الخلق زجرةً فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى (من كان في بطنها ففي بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها" ذكره الغَزْنَويّ. وتبديل السماء تكوير شمسها وقمرها، وتناثر نجومها؛ قاله ابن عباس. وقيل: اختلاف أحوالها، فمرّة كالمهل ومرة كالدّهان؛ حكاه ابن الأنباريّ؛ وقد ذكرنا هذا الباب مبيَّناً في كتاب «التذكرة» وذكرنا ما للعلماء في ذلك، وأن الصحيح إزالة هذه الأرض حسب ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. روى مسلم "عن ثَوْبان مولَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك؛ وذكر الحديث، وفيه: فقال اليهوديّ أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الظُّلمة دون الجِسر" . وذكر الحديث. وخرّج عن عائشة قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: يَوْم تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: على الصراط" . خرجه ابن ماجه بإسناد مسلم سواء، وخرجه الترمذيّ عن عائشة وأنها هي السائلة، قال: هذا حديث حسن صحيح؛ فهذه الأحاديث تنصّ على أن السموات والأرض تُبدَّل وتُزَال، ويخلق الله أرضاً أخرى يكون الناس عليها بعد كونهم على الجِسْر. وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُحشَر الناسُ يوم القيامة على أرض بيضاءَ عَفْراء كقُرْصَة النَّقِيّ ليس فيها عَلَمٌ لأحد" . وقال جابر: سألت أبا جعفر محمد بن عليّ عن قول الله عز وجل: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ» قال: تُبدّل خُبْزة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ: { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ } }. [الأنبياء: 8] وقال ابن مسعود: إنها تبدّل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يُعمَلْ عليها خطيئة. وقال ابن عباس: بأرض من فضّة بيضاء. وقال عليّ رضي الله عنه: تبدّل الأرض يومئذ من فضة والسماء من ذهب وهذا تبديل للعين، وحسبك. { وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي من قبورهم، وقد تقدّم.

قوله تعالى: { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ } وهم المشركون. { يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة. { مُّقَرَّنِينَ } أي مشدودين { فِي ٱلأَصْفَادِ } وهي الأغلال والقيود، واحدها صَفْد وصَفَد. ويقال: صَفَدته صَفْداً أي قيّدته والاسم الصَّفَد، فإذا أردت التكثير قلت: صَفَّدته تصفِيداً؛ قال عمرو بن كُلْثوم:

فآبُوا بالنِّهَابِ وبالسَّبَايَاوأبْنَا بالمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا

أي مقيّدينا. وقال حسان:

مِن كلِّ مَأسُورٍ يُشَدُّ صِفَادُهُصَقْرٍ إذَا لاَقَى الْكَرِيهةَ حَامِ

أي غلُّهُ، وأصفدته إصفاداً أعطيته. وقيل: صَفَدته وأَصْفَدته جاريان في القيد والإعطاء جميعاً؛ قال النابغة:

فَـلَمْ أُعَـرِّض أَبَيْـتَ الَّلْعـن بالصَّفَـدِ

فالصَّفَد العطاء؛ لأنه يُقيِّد ويُعْبد؛ قال أبو الطيب:

وقَيَّدتُ نفسِي في ذَرَاكَ مَحَبَّةًومَن وَجَدَ الإحسانَ قَيْداً تَقيَّدَا

قيل: يقرن كل كافر مع شيطان في غُلّ، بيانه قوله: { { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22] يعني قرناءهم من الشياطين. وقيل: إنهم الكفار يجمعون في الأصفاد كما اجتمعوا في الدنيا على المعاصي. { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } أي قمصهم، عن ابن دُرَيد وغيره، واحدها سِربال، والفعل تَسربلتُ وسَربلتُ غيري؛ قال كعب بن مالك:

تَلْقَاكُمُ عَصَبٌ حَوْلَ النَّبِيِّ لَهُمْمِنْ نَسْجِ دَاودَ في الْهَيْجَا سَرَابِيلُ

«مِن قَطِرَانٍ» يعني قطران الإبل الذي تُهْنَأ به؛ قاله الحسن. وذلك أبلغ لاشتعال النار فيهم. وفي الصحيح: أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سِربال من قطران ودِرْع من جَرَب. وروي عن حماد أنهم قالوا: هو النُّحاس. وقرأ عيسى بن عمر: «قَطْرَانٍ» بفتح القاف وتسكين الطاء. وفيه قراءة ثالثة: كسر القاف وجزم الطاء؛ ومنه قول أبي النَّجْم:

جَوْنٌ كَأَنَّ الْعَرَقَ الْمَنْتُوحَالَبَّسَهُ الْقِطْرَانَ والْمُسُوحَا

وقراءة رابعة: «مِنْ قِطْرٍآنٍ» رويت عن ابن عباس وأبي هُريرة وعِكْرمة وسعيد بن جُبير ويعقوب؛ والقِطْر النحاس والصُّفْر المذاب؛ ومنه قوله تعالى: { { آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [الكهف: 96]. والآن: الذي قد ٱنتهى إلى حَرِّه؛ ومنه قوله تعالى: { { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آن } [الرحمن: 44]. { وَتَغْشَىٰ } أي تضرب { وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ } فَتُغَشِّيها. { لِيَجْزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي بما كسبت. { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } تقدّم.

قوله تعالى: { هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ } أي هذا الذي أنزلنا إليك بلاغ؛ أي تبليغ وعظة. { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } أي ليخوَّفوا عقاب الله عز وجل، وقرىء. «وَلِيَنْذَرُوا» بفتح الياء والذال، يقال: نَذِرت بالشيء أَنْذَر إذا علمت به فاستعددتَ له، ولم يستعملوا منه مصدراً كما لم يستعملوا من عسى وليس، وكأنهم ٱستغنوا بأن والفعل كقولك: سَرَّني أن نَذِرتُ بالشيء. { وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي وليعلموا وحدانية الله بما أقام من الحجج والبراهين. { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي وليتّعظ أصحاب العقول. وهذه اللامات في «وَلِيُنْذَرُوا» «وَلِيَعْلَمُوا» «وَلِيَذَّكَرَ» متعلقة بمحذوف؛ التقدير: ولذلك أنزلناه. وروى يَمَان بن رِئَاب أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وسئل بعضهم هل لكتاب الله عنوان؟ فقال: نعم؛ قيل: وأين هو؟ قال قوله تعالى: { هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } إلى آخرها.