التفاسير

< >
عرض

مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠٦
-النحل

الجامع لاحكام القرآن

فيه إحدى وعشرون مسألة:

الأولى ـ قوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ } هذا متصل بقوله تعالى: { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } فكان مبالغة في الوصف بالكذب؛ لأن معناه لا ترتدوا عن بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم. أي من كفر من بعد إيمانه وٱرتد فعليه غضب الله. قال الكلبي: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح ومِقْيَس بن صُبابة وعبد الله بن خَطَل، وقيس بن الوليد بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم. ثم قال: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ }. وقال الزجاج: «من كفر باللَّهِ مِن بعد إيمانِهِ» بدل ممن يفتري الكذب؛ أي إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه؛ لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلّقه بما قبله. وقال الأخفش: «مَن» ابتداء وخبره محذوف، اكتُفِي منه بخبر «من» الثانية؛ كقولك: مَن يأتنا مَن يحسن نكرمه.

الثانية ـ قوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } هذه الآية نزلت في عَمّار بن ياسر، في قول أهل التفسير؛ لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه. قال ابن عباس: أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمَّه سُمَيّة وصُهَيباً وبلالاً وخَبّاباً وسالما فعذّبوهم، ورُبطت سُمَية بين بعيرين ووُجِىء قُبُلها بحربة، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال؛ فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأما عَمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكْرَهاً فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تجد قلبك" ؟ قال: مطمئن بالإيمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن عادوا فَعُدْ" . وروى منصور بن المُعْتَمِر عن مجاهد قال: أول شهيدة في الإسلام أمّ عمار، قتلها أبو جهل، وأول شهيد من الرجال مِهْجَع مولى عمر. وروى منصور أيضاً عن مجاهد قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وبلال، وخَبّاب، وصهيب، وعَمّار، وسُميّة أمّ عمار. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذوا الآخرين فألبسوهم أدراع الحديد، ثم صَهَروهم في الشمس حتى بلغ منهم الجهد كل مبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشيّ أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يَسُبُّهم ويوبخهم، وأتى سُمَيّة فجعل يسبّها ويَرْفُث، ثم طعن فرجها حتى خرجت الحربة من فمها فقتلها؛ رضي الله عنها. قال: وقال الآخرون ما سُئلوا؛ إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه في الله، فجعلوا يعذبونه ويقولون له: ارجع عن دينك، وهو يقول أَحَدٌ أحد؛ حتى ملّوه، ثم كتّفوه وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أَخْشَبَيْ مكة حتى ملّوه وتركوه، قال فقال عمار: كلنا تكلم بالذي قالوا ـ لولا أن الله تدارَكنا ـ غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، فهان على قومه حتى ملّوه وتركوه. والصحيح أن أبا بكر اشترى بلالاً فأعتقه. وروى ابن أبي نَجيح عن مجاهد أن ناساً من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة: أن هاجروا إلينا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة حتى أدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية. ذكر الروايتين عن مجاهد إسماعيلُ بن إسحاق. وروى الترمذيّ عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خُيِّر عَمّار بين أمرين إلا اختار أرشدهما" هذا حديث حسن غريب. وروي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة عليّ وعمّار وسلمان بن ربيعة" . قال الترمذيّ: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن صالح.

الثالثة: لما سمح الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلّها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم؛ وبه جاء الأثر المشهور عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما ٱستكرِهوا عليه" الحديث. والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء؛ قاله القاضي أبو بكر بن العربيّ. وذكر أبو محمد عبد الحق أن إسناده صحيح، قال: وقد ذكره أبو بكر الأصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الإقناع.

الرابعة: أجمع أهل العلم على أن من أكرِه على الكفر حتى خَشِيَ على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبُه مطمئن بالإيمان، ولا تَبِين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر؛ هذا قول مالك والكوفيين والشافعيّ؛ غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتداً في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتَبِين منه ٱمرأته ولا يصلَّى عليه إن مات، ولا يَرِث أباه إن مات مسلماً. وهذا قول يرده الكتاب والسنة، قال الله تعالى: «إلاّ مَن أكرِه» الآية. وقال: { { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران: 28] وقال: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ } [النساء: 97] الآية. وقال: { إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ } [النساء: 98] الآية. فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا مستضعفاً غير ممتنع من فعل ما أمر به؛ قاله البخاريّ.

الخامسة ـ ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا؛ يروى هذا عن الحسن البصريّ، رضي الله عنه. وهو قول الأوزاعيّ وسُحْنون من علمائنا. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير: اسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك. فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ؛ ففي الصحيح عن ٱبن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت { { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [البقرة: 115] في رواية: ويُوتِر عليها، غير أنه لا يصلّى عليها المكتوبة. فإذا كان هذا مباحاً في السفر في حالة الأمن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا. واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود: ما من كلام يَدرأ عنّي سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلّماً به. فقصَر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يجعل الكلام مثالاً وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسرّ الإيمان. روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أوالإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع.

السادسة ـ أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحلّ له أن يَفْدِي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

واختلف في الزنى، فقال مُطَرِّف وأَصْبَغ وابن عبد الحكم وابن الماجِشُون: لا يفعل أحد ذلك، وإن قُتل لم يفعله، فإن فعله فهو آثم ويلزمه الحَدّ؛ وبه قال أبو ثَوْر والحسن. قال ابن العربي: الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى ولا حَدّ عليه، خلافاً لمن ألزمه ذلك؛ لأنه رأى أنها شهوة خُلقية لا يتصوّر الإكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الإلجاء إلى ذلك، وهو الذي أسقط حكمه، وإنما يجب الحَدّ على شهوة بعث عليها سبب اختياري، فقاس الشيء على ضده، فلم يحل بصواب من عنده. وقال ابن خُوَيْزِ مَنْداد في أحكامه: اختلف أصحابنا متى أكره الرجل على الزنى؛ فقال بعضهم: عليه الحدّ؛ لأنه إنما يفعل ذلك باختياره. وقال بعضهم: لا حدّ عليه. قال ابن خُوَيْزِ منداد: وهو الصحيح، وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير السلطان حُدّ، وإن أكرهه السلطان فالقياس أن يحدّ، ولكن أستحسن ألا يحدّ. وخالفه صاحباه فقالا: لا حدّ عليه في الوجهين، ولم يراعوا الانتشار، وقالوا: متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنى جاز أن ينتشر. قال ابن المنذر: لا حدّ عليه، ولا فرق بين السلطان في ذلك وغير السلطان.

السابعة ـ اختلف العلماء في طلاق المكره وعتاقه؛ فقال الشافعيّ وأصحابه: لا يلزمه شيء. وذكر ابن وهب عن عمر وعليّ وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئاً. وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وأجازت طائفة طلاقه؛ روي ذلك عن الشَّعْبيّ والنَّخَعِيّ وأبي قلابة والزهري وقتادة، وهو قول الكوفيين. قال أبو حنيفة: طلاق المكره يلزم؛ لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل. وهذا قياس باطل؛ فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راضٍ به، والمكره غير راض ولا نية له في الطلاق، وقد قال عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" . وفي البخاري: وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق: ليس بشيء؛ وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن. وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق. وفسّره ابن عيينة فقال: إن اللّص يقُدِم على قتله والسلطان لا يقتله.

الثامنة ـ وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان. الأولى ـ أن يبيع ماله في حق وجب عليه؛ فذلك ماضٍ سائغٌ لا رجوع فيه عند الفقهاء؛ لأنه يلزمه أداء الحق إلى ربه من غير المبيع، فلما لم يفعل ذلك كان بيعه اختياراً منه فلزمه. وأما بيع المكره ظلماً أو قهراً فذلك بيع لا يجوز عليه، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم؛ فإن فات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه. قال مُطرِّف: ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وكلما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه. قال سُحْنون: أجمع أصحابنا وأهل العراق على أن بيع المكره على الظلم والجَوْر لا يجوز. وقال الأَبْهَرِيّ: إنه إجماع.

التاسعة ـ وأما نكاح المكره؛ فقال سُحْنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام عليه، لأنه لم ينعقد. قال محمد بن سُحنون: وأجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا: لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة آلاف درهم، وصداقُ مثلها ألف درهم، أن النكاح جائز وتلزمه الألف ويبطل الفضل. قال محمد: فكما أبطلوا الزائد على الألف فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالإكراه. وقولهم خلاف السنة الثابتة في حديث خَنْساء بنت خِذام الأنصارية، ولأمره صلى الله عليه وسلم بالاستئمار في أبضاعهن، وقد تقدّم، فلا معنى لقولهم.

العاشرة ـ فإن وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطء والرضا بالنكاح لزمه النكاح عندنا على المسمَّى من الصداق ودُرىء عنه الحد. وإن قال: وطئتها على غير رضًا مني بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمَّى؛ لأنه مدّعٍ لإبطال الصداق المسمى، وتُحَدّ المرأة إن أقدمت وهي عالمة أنه مكره على النكاح. وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطء فلا حدّ عليها ولها الصداق، ويحدّ الواطىء؛ فٱعلمه. قاله سحنون.

الحادية عشرة ـ إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حدّ عليها؛ لقوله «إلا من أكره» وقوله عليه السلام: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" . ولقول الله تعالى: { { فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النور: 33] يريد الفتيات. وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدّها. والعلماء متفقون على أنه لا حدّ على امرأة مستكرَهة. وقال مالك: إذا وجدت المرأة حاملاً وليس لها زوج فقالت ٱستكرِهت فلا يقبل ذلك منها وعليها الحَدّ، إلا أن تكون لها بيّنة أو جاءت تَدْمِي على أنها أوتيت، أو ما أشبه ذلك. واحتج بحديث عمر بن الخطاب أنه قال: الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف. قال ابن المنذر: وبالقول الأوّل أقول.

الثانية عشرة ـ واختلفوا في وجوب الصداق للمستكرهة؛ فقال عطاء والزُّهْرِيّ: لها صداق مثلها؛ وهو قول مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال الثَّوْرِيّ: إذا أقيم الحدّ على الذي زنى بها بطل الصداق. وروي ذلك عن الشعبي، وبه قال أصحاب مالك وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: القول الأوّل صحيح.

الثالثة عشرة ـ إذا أكره الإنسان على إسلام أهله لما لم يَحِلّ أسلمها، ولم يقتل نفسه دونها ولا احتمل أذية في تخليصها. والأصل في ذلك ما خَرّجه البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاجر إبراهيمُ عليه السلام بسارة ودخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فأرسل إليه أن أرسل بها إليّ فأرسل بها فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلّي فقالت اللهم إن كنتُ آمنتُ بك وبرسولك فلا تسلّط عليّ هذا الكافر فغُطّ حتى رَكَض برجله" . ودل هذا الحديث أيضاً على أن سارة لما لم يكن عليها ملامة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة، ولا حدّ فيما هو أكبر من الخلوة. والله أعلم.

الرابعة عشرة ـ وأما يمين المكره فغير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء. قال ابن الماجِشون: وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذا أكره على اليمين؛ وقاله أصْبَغ. وقال مطرّف: إن أكره على اليمين فيما هو لله معصية أو ليس في فعله طاعة ولا معصية فاليمين فيه ساقطة، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلاً فاسقاً فيكرهه أن يحلف بالطلاق لا يشرب خمراً، أو لا يفسق ولا يَغُشّ في عمله، أو الوالد يحلّف ولده تأديباً له فإن اليمين تلزم؛ وإن كان المكره قد أخطأ فيما يكلّف من ذلك. وقال به ابن حبيب. وقال أبو حنيفة ومن اتبعه من الكوفيين: إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنِث، قالوا: لأن المكره له أن يورِّيَ في يمينه كلها، فلما لم يورّ ولا ذهبت نيّته إلى خلاف ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين. احتج الأوّلون بأن قالوا: إذا أكره عليها فنيّته مخالفة لقوله؛ لأنه كاره لما حلف عليه.

الخامسة عشرة ـ قال ابن العربيّ: ومن غريب الأمر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع به أم لا؛ وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم، لا كانت هذه المسألة ولا كانوا! وأيّ فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحِنث في أنه لا يقع! فاتقوا الله وراجعوا بصائركم، ولا تغتروا بهذه الرواية فإنها وصمة في الدراية.

السادسة عشرة ـ إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المَكْس وظلمة السعاة وأهل الاعتداء؛ فقال مالك: لا تَقِيّة له في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا ماله. وقال ابن الماجشون: لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه. وقال ٱبن القاسم بقول مطرّف، ورواه عن مالك، وقاله ٱبن عبد الحكم وأصْبَغ.

قلت: قول ٱبن الماجشون صحيح؛ لأن المدافعة عن المال كالمدافعة عن النفس؛ وهو قول الحسن وقتادة وسيأتي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام وقال: كلُّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" . وروى أبو هريرة قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تُعْطِه مالك. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار" خرجه مسلم. وقد مضى الكلام فيه. وقال مطرّف وٱبن الماجشون: وإن بدر الحالف بيمينه للوالي الظالم قبل أن يُسألها ليَذُبّ بها عما خاف عليه من ماله وبدنه فحلف له فإنها تلزمه. وقاله ٱبن عبد الحكم وأصبغ. وقال أيضاً ٱبن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق ألبتّةَ من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب، وإنما حلف خوفاً من ضربه وقتله وأخذ ماله: فإن كان إنما تبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث.

السابعة عشرة ـ قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض؛ فإن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب. ومتى لم يكن كذلك كان كافراً؛ لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها. مثاله ـ أن يقال له: أكفر بالله فيقول باللاهي؛ فيزيد الياء. وكذلك إذا قيل له: أكفر بالنبيّ فيقول هو كافر بالنبيّ، مشدداً وهو المكان المرتفع من الأرض. ويطلق على ما يعمل من الخوص شبه المائدة، فيقصد أحدَهما بقلبه ويبرأ من الكفر ويبرأ من إثمه. فإن قيل له: أكفر بالنبيء (مهموزاً) فيقول هو كافر بالنبيء يريد بالمخبر، أي مخبر كان كطليحة ومُسَيْلِمة الكذاب. أو يريد به النبيء الذي قال فيه الشاعر:

فأصبح رَتْماً دُقاق الحَصَىمكان النبيء من الكاثب

الثامنة عشرة ـ أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجراً عند الله ممن ٱختار الرخصة. وٱختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له؛ فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدّة في ذلك وٱختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب وسُحنون. وذكر ابن سُحنون عن أهل العراق أنه إذا تهدّد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير؛ فإن لم يفعل حتى قتل خِفنا أن يكون آثماً لأنه كالمضطر. وروى خَبّاب بن الأَرَتّ قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بُرْدَةً له في ظل الكعبة فقلت: أَلاَ تَسْتَنْصِرْ لنا ألاَ تدعو لنا؟ فقال: "قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يَصُدّه ذلك عن دينه والله لَيَتِمَّنّ هذا الأمرُ حتى يسير الرَّكْبُ من صنعاءَ إلى حَضَرَمَوْت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه ولكنكم تستعجلون" . فوَصْفُه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر وتبطّنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم. وهذه حجة مَن آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة والمقام بدار الجنان. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة «الأخدود» إن شاء الله تعالى. وذكر أبو بكر محمد بن محمد بن الفرج البَغْدادِيّ قال: حدثنا شريح بن يونس عن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس بن عبيد عن الحسن. "أن عيونا لمسيلِمَة أخذوا رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فذهبوا بهما إلى مسيلِمة، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال نعم. فخلّى عنه. وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال نعم. قال: وتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصمّ لا أسمع؛ فقدّمه وضرب عنقه. فجاء هذا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت قال: وما أهلكك؟ فذكر الحديث، قال: أمّا صاحبك فأخذ بالثقة وأما أنت فأخذت بالرخصة. على ما أنت عليه الساعة؟ قال: أشهد أنك رسول الله. قال: أنت على ما أنت عليه" . الرخصة فيمن حلفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل؛ فقال الحسن: إذا خاف عليه وعلى ماله فليحلف ولا يكفر يمينه؛ وهو قول قتادة إذا حلف على نفسه أو مال نفسه. وقد تقدّم ما للعلماء في هذا. وذكر موسى بن معاوية أن أبا سعيد بن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنه ما آواه، ولا يعلم له موضعاً؛ قال: فحلف له ابن أشرس؛ وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه، فحلفه بالطلاق ثلاثاً، فحلف له ابن أشرس، ثم قال لامرأته: اعتزلي فاعتزلته؛ ثم ركب ابن أشرس حتى قدم على البهلول بن راشد القيروان، فأخبره بالخبر؛ فقال له البهلول: قال مالك إنك حانث. فقال ابن أشرس: وأنا سمعت مالكاً يقول ذلك، وإنما أردت الرخصة، أو كلام هذا معناه؛ فقال له البهلول بن راشد: قال الحسن البصري إنه لا حنث عليك. قال: فرجع ابن أشرس إلى زوجته وأخذ بقول الحسن. وذكر عبد الملك بن حبيب قال: حدّثني معبد عن المسيب بن شريك عن أبي شيبة قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف لِيقِيه بيمينه؟ فقال نعم؛ وَلأن أحلف سبعين يميناً وأحنث أحبّ إليّ أن أدَلّ على مسلم. وقال إدريس بن يحيـى كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال: فجلس رجل منهم في حَلْقة رجاء بن حَيْوة فسمع بعضَهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه فقال: يا رجاء! أُذْكَرُ بالسوء في مجلسك ولم تغيّر! فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين؛ فقال له الوليد: قل: آلله الذي لا إلٰه إلا هو، قال: الله الذي لا إلٰه إلا هو؛ فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطا، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء، بك يستقى المطر، وسبعون سوطاً في ظهري! فيقول رجاء: سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم.

التاسعة عشرة ـ واختلف العلماء في حَدّ الإكراه؛ فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنتُ متكلماً به. وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقيّة. وقال النَّخَعِيّ: القيد إكراه، والسجن إكراه. وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوّف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإنفاذه لما يتوعّد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه. وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراهاً على شرب الخمر وأكل الميتة؛ لأنه يخاف منهما التلف. وجعلوهما إكراهاً في إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال ابن سحنون: وفي إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه؛ وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثَوْر وأكثر العلماء.

الموفية عشرين ـ ومن هذا الباب ما ثبت إن من المعاريض لمندوحةً عن الكذب. وروى الأعمش عن إبراهيم النَّخَعِيّ أنه قال: لا بأس إذا بلغ الرجلَ عنك شيء أن تقول: والله، إن الله يعلم ما قلتُ فيك من ذلك من شيء. قال عبد الملك بن حبيب: معناه أن الله يعلم أن الذي قلت، وهو في ظاهره انتفاء من القول، ولا حنث على من قال ذلك في يمينه ولا كذب عليه في كلامه. وقال النخعِيّ: كان لهم كلام من ألغاز الأيمان يدرءون به عن أنفسهم، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث. قال عبد الملك: وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام، إذا كان ذلك في غير مكر ولا خديعة في حق. وقال الأعمش: كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه جلس في مسجد بيته وقال لجاريته: قولي له هو والله في المسجد. وروى مغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز للرجل من البَعْث إذا عُرضوا على أميرهم أن يقول: والله ما أهتدي إلا ما سدّد لي غيري، ولا أركب إلا ما حملني غيري؛ ونحو هذا من الكلام. قال عبد الملك: يعني بقوله «غيري» اللَّهَ تعالى، هو مسدّده وهو يحمله؛ فلم يكونوا يرون على الرجل في هذا حنثا في يمينه، ولا كذباً في كلامه، وكانوا يكرهون أن يقال هذا في خديعة وظلم وجُحدان حق فمن اجترأ وفعل أثم في خديعته ولم تجب عليه كفارة في يمينه.

الحادية والعشرون ـ قوله تعالى: { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } أي وسّعه لقبول الكفر، ولا يقدر أحد على ذلك إلا الله؛ فهو يرد على القدرية. و «صدرا» نصب على المفعول. { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب جهنم.