التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٦٩
-النحل

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } وذلك أنها إنما تأكل النوّار من الأشجار. { فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } أي طرق ربك. والسّبل: الطرق، وأضافها إليه لأنه خالقها. أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر. { ذُلُلاً } جمع ذلول وهو المنقاد؛ أي مطيعة مسخرة. فـ «ذللاً» حال من النحل. أي تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها؛ لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا؛ قاله ابن زيد. وقيل: المراد بقوله «ذُلُلاً» السبل. واليَعْسُوب سيد النحل، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت.

قوله تعالى: { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } فيه تسع مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } رجع الخطاب إلى الخبر على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة فقال: «يخرج من بطونها شراب» يعني العسل. وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل؛ وورد عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعابُ دودة، وأشرب شرابه رَجِيعُ نحلة. فظاهر هذا أنه من غير الفم. وبالجملة فإنه يخرج ولا يدرى من فيها أو أسفلها، ولكن لا يتم صلاحه إلا بحَمْى أنفاسها. وقد صنع أرسطاطاليس بيتاً من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع، فأبت أن تعمل حتى لطخت باطن الزجاج بالطين؛ ذكره الغزنويّ. وقال: «مِن بطونِها» لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن.

الثانية ـ قوله تعالى: { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر والجامد والسائل، والأم واحدة والأولاد مختلفون دليل على أن القدرة نوّعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي؛ ومن هذا المعنى قول زينب للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «جَرَسَتْ نحلُه العُرْفُطَ» حين شبهت رائحته برائحة المغافير.

الثالثة ـ قوله تعالى: { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } الضمير للعسل؛ قاله الجمهور. أي في العسل شفاء للناس. وروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك والفراء وابن كَيْسان: الضمير للقرآن؛ أي في القرآن شفاء. النحاس: وهذا قول حسن؛ أو فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. وقيل: العسل فيه شفاء، وهذا القول بيّن أيضاً؛ لأن أكثر الأشربة والمعجونات التي يتعالج بها أصلها من العسل. قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: من قال إنه القرآن بعيد ما أراه يصحّ عنهم، ولو صح نقلاً لم يصح عقلاً؛ فإن مساق الكلام كلّه للعسل، ليس للقرآن فيه ذكر. قال ابن عطية: وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية يراد بها أهل البيت وبنو هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر هذا بعضهم في مجلس المنصور أبي جعفر العباسيّ، فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين وبُهِت الآخر وظهرت سخافة قوله.

الرابعة ـ اختلف العلماء في قوله تعالى: { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } هل هو على عمومه أم لا؛ فقالت طائفة: هو على العموم في كل حال ولكل أحد، فروي عن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئاً إلا جعل عليه عسلاً، حتى الدُّمَّل إذا خرج عليه طَلى عليه عسلاً. وحكى النقاش عن أبي وَجْرة أنه كان يكتحل بالعسل ويستمشي بالعسل ويتداوى بالعسل. وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال: ائتوني بالماء، فإن الله تعالى يقول: { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً } ثم قال: ائتوني بعسل، فإن الله تعالى يقول: { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } وائتوني بزيت، فإن الله تعالى يقول: { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } فجاءوه بذلك كله فخلطه جميعاً ثم شربه فبرىء. ومنهم من قال: إنه على العموم إذا خلط بالخل ويطبخ فيأتي شراباً ينتفع به في كل حالة من كل داء. وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص ولا يقتضي العموم في كل علة وفي كل إنسان، بل إنه خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض وعلى حال دون حال؛ ففائدة الآية إخبار منه في أنه دواء لمّا كثر الشفاء به وصار خليطاً ومُعيناً للأدوية في الأشربة والمعاجين؛ وليس هذا بأول لفظ خُصّص فالقرآن مملوء منه ولغة العرب يأتي فيها العام كثيراً بمعنى الخاص والخاص بمعنى العام. ومما يدل على أنه ليس على العموم أن «شفاء» نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحقّقي أهل العلم ومختلفي أهل الأصول. لكن قد حملته طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم، فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع والأمراض، وكانوا يشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق والإيقان. ابن العربي: ومن ضعفت نيته وغلبته على الدِّين عادته أخذه مفهوماً على قول الأطباء، والكلُّ مِن حِكَم الفَعّال لما يشاء.

الخامسة ـ إن قال قائل: قد رأينا من ينفعه العسل ومن يضره، فكيف يكون شفاء للناس؟ قيل له: الماء حياة كل شيء وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يضاده من علة في البدن، وقد رأينا شفاء العسل في أكثر هذه الأشربة؛ قال معناه الزجاج. وقد ٱتَّفق الأطباء عن بَكْرة أبيهم على مدح عموم منفعة السّكنجبين في كل مرض، وأصله العسل وكذلك سائر المعجونات، على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حَسَم داء الإشكال وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكي بطنه بشرب العسل. فلما أخبره أخوه بأنه لم يزده إلا استطلاقاً أمره بعود الشراب له فبرىء؛ وقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك».

السادسة ـ اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال؛ فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيّه عليه السلام، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفي المحل الذي أمره بعقد نية وحسن طويّة، فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدّم. وأما ما حكي من الإجماع فدليل على جهله بالنقل حيث لم يقيّد وأطلق. قال الإمام أبو عبد الله المازَري: ينبغي أن يُعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة؛ منها الأسهال الحادث عن التُّخم والهَيْضات؛ والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى مُعين على الإسهال أعينت ما دامت القوّة باقية، فأما حبسها فضرر، فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهَيْضة فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بشرب العسل فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال فوافقه شرب العسل. فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذِن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبيّنا بأن يصدقه الأطباء بل لو كذّبوه لكذبناهم ولكفّرناهم وصدّقناه صلى الله عليه وسلم؛ فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخريجه على ما يصح إذ قامت الدّلالة على أنه لا يكذب.

السابعة ـ في قوله تعالى: { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } دليل على جواز التعالج بشرب الدواء وغير ذلك خلافاً لمن كره ذلك من جلّة العلماء، وهو يرد على الصوفية الذين يزعمون أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء، ولا يجوز له مداواة. ولا معنى لمن أنكر ذلك، روى الصحيح عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواءُ الداءِ برأ بإذن الله" . وروى أبو داود والترمذي عن أسامة بن شُريك قال: "قالت الأعراب: ألا نَتداوَى يا رسول الله؟ قال: نعم. يا عباد الله تداوَوْا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحداً قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: الهرم" لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وروي "عن أبي خزامة عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أرأيت رُقىً نسترقيها ودواء نتداوى به وتُقاة نتقيها، هل تَرُدّ من قَدَر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله" قال: حديث حسن، ولا يعرف لأبي خزامة غير هذا الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجَم أو شربة من عسل أو لَذْعة بنار وما أحب أن أكْتَوِيَ" أخرجه الصحيح. والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وعلى إباحة التداوي والاسترقاء جمهور العلماء. روي أن ابن عمر اكتوى من اللَّقْوة ورقي من العقرب. وعن ابن سِيرين أن ابن عمر كان يسقي ولده التّرياق. وقال مالك: لا بأس بذلك. وقد احتج من كره ذلك بما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"دخلت أمّة بقَضِّها وقَضِيضها الجنة كانوا لا يَسترقُون ولا يَكْتَوُون ولا يتطيّرون وعلى ربهم يتوكلون" . قالوا: فالواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاماً بالله وتوكلاً عليه وثقة به وانقطاعاً إليه؛ فإن الله تعالى قد علم أيام المرض وأيام الصحة فلو حَرَص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا؛ قال الله تعالى: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ }. وممن ذهب إلى هذا جماعة من أهل الفضل والأثر، وهو قول ابن مسعود وأبي الدرداء رضوان الله عليهما. دخل عثمان بن عفان على ابن مسعود في مرضه الذي قبض فيه فقال له عثمان: ما تشتكي؟ قال ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال رحمة ربي. قال: ألا أدعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني... وذكر الحديث. وسيأتي بكماله في فضل الواقعة إن شاء الله تعالى. وذكر وكيع قال: حدثنا أبو هلال عن معاوية بن قُرّة قال: مرِض أبو الدّرداء فعادوه وقالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أضجعني. وإلى هذا ذهب الربيع بن خَيْثم. وكره سعيد بن جُبير الرُّقََى. وكان الحسن يكره شرب الأدوية كلها إلا اللبن والعسل. وأجاب الأوّلون عن الحديث بأنه لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه بدليل كي النبيّ صلى الله عليه وسلم أُبَيّاً يوم الأحزاب على أكحله لما رُمِي. وقال: "الشفاء في ثلاثة" كما تقدّم. ويحتمل أن يكون قصد إلى الرقي بما ليس في كتاب الله، وقد قال سبحانه وتعالى { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ } على ما يأتي بيانه. ورَقَى أصحابَه وأمرهم بالرُّقية؛ على ما يأتي بيانه.

الثامنة ـ ذهب مالك وجماعة أصحابه إلى أن لا زكاة في العسل وإن كان مطعوماً مُقتاتاً. واختلف فيه قول الشافعي، والذي قطع به في قوله الجديد: أنه لا زكاة فيه. وقال أبو حنيفة بوجوب زكاة العسل في قليله وكثيره؛ لأن النصاب عنده فيه ليس بشرط. وقال محمد بن الحسن: لا شيء فيه حتى يبلغ ثمانية أفراق، والفرق ستة وثلاثون رطلاً من أرطال العراق. وقال أبو يوسف: في كل عشرة أزقاق زق؛ متمسكاً بما رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في العسل في كل عشرة أزقاق زق" قال أبو عيسى: في إسناده مقال، ولا يصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء.

التاسعة ـ قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي يعتبرون؛ ومن العبرة في النحل بإنصاف النظر وإلطاف الفكر في عجيب أمرها. فيشهد اليقين بأن ملهمها الصنعة اللطيفة مع البنية الضعيفة، وحذقها باحتيالها في تفاوت أحوالها هو الله سبحانه وتعالى؛ كما قال: { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ }. الآية ثم أنها تأكل الحامض والمُرّ والحلو والمالح والحشائش الضارة، فيجعله الله تعالى عسلاً حلواً وشفاء، وفي هذا دليل على قدرته.