التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
٧٢
-النحل

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } جعل بمعنى خلق؛ وقد تقدم. { مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } يعني آدم خلق منه حواء. وقيل: المعنى جعل لكم من أنفسكم، أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم؛ كما قال: { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي من الآدميين. وفي هذا ردّ على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوَّج الجن وتباضعها، حتى روي أن عمرو بن هند تزوج منهم غُولاً وكان يخبؤها عن البرق لئلا تراه فتنفر، فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السِّعلاة فقالت: عمرو! ونفرت، فلم يرها أبداً. وهذا من أكاذيبها، وإن كان جائزاً في حكم الله وحكمته فهو ردّ على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجانّ ويحيلون طعامهم. { أَزْوَاجاً } زوج الرجل هي ثانيته، فإنه فرد فإذا انضافت إليه كانا زوجين، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود كما تقدم.

قوله تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } فيه خمس مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ } ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، ووجود الأبناء يكون منهما معاً؛ ولكنه لما كان خلق المولود فيها وانفصاله عنها أضيف إليها، ولذلك تبعها في الرّق والحرية وصار مثلها في المالية. قال ابن العربيّ: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية؛ لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلأجل ذلك تبعها. كما لو أكل رجل تمراً في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها.

الثانية ـ قوله تعالى: { وَحَفَدَةً } روى ابن القاسم عن مالك قال وسألته عن قوله تعالى: { بَنِينَ وَحَفَدَةً } قال: الحَفَدة الخدم والأعوان في رأيي. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَحَفَدَةً } قال هم الأعوان، من أعانك فقد حفدك. قيل له: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم وتقوله! أو ما سمعت قول الشاعر:

حَفَد الولائدُ حولهن وأسلَمتْبأكفّهنّ أزِمّةَ الأجمال

أي أسرعن الخدمة. والولائد: الخدم، الواحدة وليدة؛ قال الأعشى:

كلّفت مجهولها نُوقاً يمانيةإذا الحُداة على أكسائها حَفَدُوا

أي أسرعوا. وقال ابن عرفة: الحفدة عند العرب الأعوان، فكل من عمل عملاً أطاع فيه وسارع فهو حافد، قال: ومنه قولهم «إليك نسعى ونحفِد»، والحَفَدان السرعة. قال أبو عبيد: الحفد العمل والخدمة. وقال الخليل بن أحمد: الحَفَدة عند العرب الخدم، وقاله مجاهد. وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد. وروي عن ابن عباس. وقيل: الأختان؛ قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحا وسعيد بن جُبير وإبراهيم؛ ومنه قول الشاعر:

فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحتْلها حَفَدٌ ما يُعَدُّ كثيرُ
ولكنها نفس عليّ أبيّةعيوف لإصهار اللئام قذور

وروى زِرّ عن عبد الله قال: الحفدة الأصهار؛ وقاله إبراهيم، والمعنى متقارب. قال الأصمعي: الخَتَن من كان من قِبَل المرأة، مثل أبيها وأخيها وما أشبههما؛ والأصهار منهما جميعاً. يقال: أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر. وقول عبد الله «هم الأختان» يحتمل المعنيين جميعاً. يحتمل أن يكون أراد أبا المرأة وما أشبهه من أقربائها، ويحتمل أن يكون أراد وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهن، فيكون لكم بسببهن أختان. وقال عكرمة: الحفدة من نفع الرجل من ولده؛ وأصله من حَفَد يحفِد (بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل) إذا أسرع في سيره؛ كما قال كُثَيّر:

* حفـد الولائـد بينهـن... * البيت.

ويقال: حفدت وأحفدت، لغتان إذا خدمت. ويقال: حافد وحَفَد؛ مثل خادم وخَدَم، وحافد وحفدة مثل كافر وكفرة. قال المهدوي: ومن جعل الحفدة الخدم جعله منقطعاً مما قبله ينوي به التقديم؛ كأنه قال: جعل لكم حفدة وجعل لكم من أزواجكم بنين.

قلت: ما قاله الأزهري من أن الحفدة أولاد الأولاد هو ظاهر القرآن بل نصه؛ ألا ترى أنه قال: «وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة» فجعل الحفدة والبنين منهن. وقال ابن العربيّ: الأظهر عندي في قوله «بنين وحفدة» أن البنين أولاد الرجل لصُلْبه والحفدة أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا، ويكون تقدير الآية على هذا: وجعل لكم من أزواجكم بنين ومن البنين حفدة. وقال معناه الحسن.

الثالثة: إذا فرعنا على قول مجاهد وابن عباس ومالك وعلماء اللغة في قولهم إن الحفدة الخدم والأعوان، فقد خرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان؛ قاله ابن العربيّ. روى البخاري وغيره عن سهل بن سعد: أن أبا أُسَيِّد الساعدي دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم لعرسه فكانت امرأته خادمهم... الحديث، وقد تقدم في سورة «هود». وفي الصحيح عن عائشة قالت: أنا فتلت قلائد بُدْن النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدي. الحديث. ولهذا قال علماؤنا: عليها أن تفرش الفراش وتطبخ القِدْر وتَقُمّ الدار، بحسب حالها وعادة مثلها؛ قال الله تعالى: { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [الأعراف: 189] فكأنه جمع لنا فيها السَّكَن والاستمتاع وضربا من الخدمة بحسب جري العادة.

الرابعة: ويخدُم الرجُل زوجتَه فيما خفّ من الخدمة ويُعينها، لما روته عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهْنة أهله فإذا سمع الأذان خرج. وهذا قول مالك: ويعينها. وفي أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخصِف النعل ويَقُمّ البيت ويَخِيط الثوب. وقالت عائشة وقد قيل لها: ما كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه ويحلب شاته ويخدُم نفسه.

الخامسة: وينفق على خادمة واحدة، وقيل على أكثر؛ على قدر الثروة والمنزلة. وهذا أمر دائر على العرف الذي هو أصل من أصول الشريعة، فإن نساء الأعراب وسكان البوادي يخدمن أزواجهن حتى في استعذاب الماء وسياسة الدواب، ونساء الحواضر يخدم المقِل منهم زوجته فيما خف ويعينها، وأما أهل الثروة فَيخدِمون أزواجهن ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب ذلك؛ فإن كان أمراً مشكلاً شرطت عليه الزوجة ذلك، فتشهد أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها فالتزم إخدامها، فينفذ ذلك وتنقطع الدعوى فيه.

قوله تعالى: { وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } أي من الثمار والحبوب والحيوان. { أَفَبِٱلْبَاطِلِ } يعني الأصنام؛ قاله ابن عباس. { يُؤْمِنُونَ } قراءة الجمهور بالياء. وقرأ أبو عبد الرحمن بالتاء. { وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ } أي بالإسلام. { هُمْ يَكْفُرُونَ }.]