التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ
١
-الإسراء

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثمان مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { سُبْحَانَ } «سبحان» اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنه لا يجري بوجوه الإعراب، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين، تقول: سبّحت تسبيحاً وسُبحاناً، مثل كفّرت اليمين تكفيراً وكفراناً. ومعناه التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص. فهو ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره؛ فأما قول الشاعر:

أقول لمّا جاءني فَخْرهُسبحانَ مِن عَلْقَمةَ الفاخِرِ

فإنما ذكره على طريق النادر. وقد "روى طلحة بن عبيد الله الفَيّاض أحدُ العشرة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال: تنزيه الله من كل سوء" . والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من لفظه، إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القُرْفصاء، واشتمل الصَّمّاء؛ فالتقدير عنده: أنزّه الله تنزيهاً؛ فوقع «سبحان الله» مكان قولك تنزيهاً.

الثانية: قوله تعالى: { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } «أسرى» فيه لغتان: سرى وأسرى؛ كسقى وأسقى، كما تقدّم. قال:

أسْرتْ عليه من الجَوْزَاء سارِيَةٌتُزْجِي الشَّمال عليه جامدَ البَرَد

وقال آخر:

حَيِّ النَّضيرة ربة الخِدْرِأسْرَت إليّ ولم تكن تَسْري

فجمع بين اللغتين في البيتين. والإسراء: سير الليل؛ يقال: سَرَيت مَسْرًى وسُرًى، وأسريت إسراء؛ قال الشاعر:

وليلة ذات نَدًى سريتُولم يَلِتْنِي من سُراها لَيْتُ

وقيل: أسرى سار من أوّل الليل، وسرى سار من آخره؛ والأوّل أعرف.

الثالثة: قوله تعالى: { بِعَبْدِهِ } قال العلماء: لو كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم اسم أشرفُ منه لسمّاه به في تلك الحالة العلية. وفي معناه أنشدوا:

يا قومِ قلبي عند زهراءِيعرفه السامع والرائي
لا تَدْعُنِي إلاّ بيا عبدهافإنه أشرف أسمائي

وقد تقدّم. قال القُشَيْرِيّ: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السّنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه ٱسمَ العبودية تواضعاً للأمة.

الرابعة: ثبت الإسراء في جميع مصنَّفات الحديث، ورُوي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش ممن رواه عشرين صحابياً. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيضُ (طويل) فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طَرفه ـ قال ـ فركبته حتى أتيت بيت المقدس ـ قال ـ فربطته بالحَلْقة التي يَرْبِطُ بها الأنبياء ـ قال ـ ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترتَ الفِطْرة ـ قال ـ ثم عَرج بنا إلى السماء..." وذكر الحديث. ومما ليس في الصحيحين ما خرّجه الآجُرِّيّ والسَّمَرْقنْديّ، قال الآجري عن أبي سعيد الخُدْرِيّ في قوله تعالى { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } قال أبو سعيد: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلةِ أسْرِيَ به، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أتِيت بدابّة هي أشبه الدواب بالبغل له أذنان يضطربان وهو البراق الذي كانت الأنبياء تركبه قبلُ فركبته فانطلق تقع يداه عند منتهى بصره فسمعت نداء عن يميني يا محمد على رِسْلِك حتى أسألك فمضيت ولم أُعَرِّج عليه ثم سمعت نداء عن يساري يا محمد على رِسْلِك فمضيت ولم أعَرِّج عليه ثم استقبلتني ٱمرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رِسْلِك حتى أسألك فمضيت ولم أُعَرِّج ثم أتيت بيت المقدس الأقصى فنزلت عن الدابة فأوثقته في الحَلْقة التي كانت الأنبياء تُوثق بها ثم دخلت المسجد وصلّيت فيه فقال لي جبريل عليه السلام ما سمعتَ يا محمد فقلتُ سمعتُ نداءً عن يميني يا محمد على رِسْلِك حتى أسألك فمضيت ولم أُعَرّج فقال ذلك داعي اليهود ولو وقفتَ لتهوّدت أمتك ـ قال ـ ثم سمعت نداء عن يساري على رِسْلِك حتى أسألك فمضيت ولم أُعَرّج عليه فقال ذلك داعي النصارى أمَا إنك لو وقفت لتنصّرت أمتك ـ قال ـ ثم استقبلتني ٱمرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رِسْلِك فمضيت ولم أُعَرّج عليها فقال تلك الدنيا لو وقفتَ لاخترت الدنيا على الآخرة ـ قال ـ ثم أتِيت باناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر فقيل لي خذ فٱشرب أيَّهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقال لي جبريل أصبت الفِطْرة ولو أنك أخذت الخمر غَوَتْ أمّتك ثم جاء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بني آدم فإذا هو أحسن ما رأيتُ أو لم تروا إلى الميت كيف يحدّ بصره إليه فعرج بنا حتى أتينا باب السماء الدنيا فٱستفتح جبريل فقيل من هذا قال جبريل قالوا ومن معك؟ قال محمد قالوا وقد أرسل إليه؟ قال نعم ففتحوا لي وسلّموا عليّ وإذا مَلَك يحرس السماء يقال له إسماعيل معه سبعون ألف ملك مع كل ملك مائة ألف ـ قال ـ وما يعلم جُنُودَ رَبِّك إلا هو..." وذكر الحديث إلى أن قال: "ثم مضينا إلى السماء الخامسة وإذا أنا بهارون بن عمران المُحَبّ في قومه وحوله تبع كثير من أمته فوصفه النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال طويل اللحية تكاد لحيته تضرب في سُرّته ثم مضينا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى فسلم عليّ ورحب بي ـ فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال ـ رجل كثير الشعر ولو كان عليه قميصان خرج شعره منهما..." الحديث. وروى البزّار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتِي بفرس فحمل عليه، كلُّ خُطوة منه أقصى بصره... وذكر الحديث. وقد جاء في صفة البراق من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم في الحِجْر إذ أتاني آتٍ فحركني برجله فٱتبعت الشخص فإذا هو جبريل عليه السلام قائم على باب المسجد معه دابة دون البغل وفوق الحمار وجهها وجه إنسان وخُفّها خُفُّ حافر وذَنَبها ذنب ثور وعُرْفها عرف الفرس فلما أدناها مني جبريل عليه السلام نفرت ونفشت عرفها فمسحها جبريل عليه السلام وقال يا بُرْقة لا تَنْفِري من محمد فوالله ما ركبك مَلك مقرّب ولا نبيّ مُرْسَل أفضلُ من محمد صلى الله عليه وسلم ولا أكرم على الله منه قالت قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وإني أحِبّ أن أكون في شفاعته فقلت أنت في شفاعتي إن شاء الله تعالى..." الحديث. وذكر أبو سعيد عبد الملك بن محمد النّيْسابوري عن أبي سعيد الخدري قال: "لما مر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإدريس عليه السلام في السماء الرابعة قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح الذي وُعدنا أن نراه فلم نره إلا الليلة قال فإذا فيها مريم بنت عمران لها سبعون قصراً من لؤلؤ ولأم موسى بن عمران سبعون قصراً من مرجانة حمراء مكللة باللؤلؤ أبوابها وأسِرّتها من عرق واحد فلما عرج المعراج إلى السماء الخامسة وتسبيحُ أهلها سبحان من جمع بين الثلج والنار من قالها مرة واحدة كان له مثلُ ثوابهم ٱستفتح الباب جبريلُ عليه السلام ففُتح له فإذا هو بكهل لم يُرَ قَطّ كَهْلٌ أجمل منه عظيم العينين تضرب لحيته قريباً من سرته قد كاد أن تكون شَمْطة وحوله قوم جلوس يقصّ عليهم فقلت يا جبريل من هذا قال هارون المُحَبّ في قومه..." وذكر الحديث.

فهذه نبذة مختصرة من أحاديث الإسراء خارجة عن الصحيحين، ذكرها أبو الربيع سليمان بن سبع بكمالها في كتاب (شفاء الصدور) له. ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السِّيَر أن الصلاة إنما فرضت على النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة في حين الإسراء حين عرج به إلى السماء. واختلفوا في تاريخ الإسراء وهيئة الصلاة، وهل كان إسراءً بروحه أو جسده؛ فهذه ثلاث مسائل تتعلق بالآية، وهي مما ينبغي الوقوف عليها والبحث عنها، وهي أهمّ من سَرْد تلك الأحاديث، وأنا أذكر ما وقفت عليه فيها من أقاويل العلماء واختلاف الفقهاء بعون الله تعالى.

فأما المسألة الأولى ـ وهي هل كان إسراء بروحه أو جسده؛ اختلَف في ذلك السلف والخلف، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، ولم يفارق شخصُه مضجَعه، وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق، ورؤيا الأنبياء حق. ذهب إلى هذا معاوية وعائشة، وحكي عن الحسن وابن إسحاق. وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح؛ واحتجوا بقوله تعالى: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجدالحرام إلى المسجد الأقصى» فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء. قالوا: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فإنه كان يكون أبلغ في المدح. وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه كان إسراء بالجسد وفي اليقظة، وأنه ركب البراق بمكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلّى فيه ثم أسْرِيَ بجسده. وعلى هذا تدل الأخبار التي أشرنا إليها والآية. وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، ولا يُعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، ولو كان مناماً لقال بروح عبده ولم يقل بعبده. وقوله: { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } [النجم: 17] يدل على ذلك. ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانىء: لا تحدِّث الناس فيكذبوك، ولا فُضّل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشاً التشنيعُ والتكذيب، وقد كذبه قريش فيما أخبر به حتى ٱرتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر، وقد قال له المشركون: إن كنت صادقاً فخبّرنا عن عِيرنا أين لقِيتَها؟ قال: «بمكان كذا وكذا مررتُ عليها ففزِع فلان فقيل له: ما رأيت يا فلان، قال: ما رأيت شيئا غير أن الإبل قد نفرت». قالوا: فأخبرنا متى تأتنا العير؟ قال: «تأتيكم يوم كذا وكذا». قالوا: أيَّة ساعة؟ قال: «ما أدري، طلوع الشمس من هاهنا أسرع أم طلوع العِيرُ من هاهنا». فقال رجل: ذلك اليوم؟ هذه الشمس قد طلعت. وقال رجل: هذه عِيركم قد طلعت، وٱستخبروا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن صفة بيت المقدس فوصفه لهم ولم يكن رآه قبل ذلك. روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"لقد رأيتُنِي في الحِجْر وقريش تسألني عن مَسْرَاي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أُثْبِتْها فكُرِبْتُ كَرْباً ما كُرِبت مثله قطّ ـ قال ـ فرفعه الله لي أنظر إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به" الحديث. وقد اعتُرض قول عائشة ومعاوية: «إنما أسرى بنَفْس رسول الله صلى الله عليه وسلم» بأنها كانت صغيرة لم تشاهِد، ولا حدّثت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال، ولم يحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ومن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليقف على (كتاب الشفاء) للقاضي عياض يجد من ذلك الشفاء. وقد احتجّ لعائشة بقوله تعالى: { { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [الإسراء: 60] فسماها رؤيا. وهذا يردّه قوله تعالى: { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } ولا يقال في النوم أسرى. وأيضاً فقد يقال لرؤية العين: رؤيا، على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وفي نصوص الأخبار الثابتة دلالةٌ واضحة على أن الإسراء كان بالبدن، وإذا ورد الخبر بشيء هو مجوّز في العقل في قدرة الله تعالى فلا طريق إلى الإنكار، لا سيما في زمن خرق العوائد، وقد كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم معارجُ؛ فلا يبعد أن يكون البعض بالرؤيا، وعليه يحمل قوله عليه السلام في الصحيح: "بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان" الحديث. ويحتمل أن يردّ من الإسراء إلى نوم. والله أعلم.

المسألة الثانية: في تاريخ الإسراء، وقد اختلف العلماء في ذلك أيضاً، واختُلف في ذلك على ٱبن شهاب؛ فروى عنه موسى بن عقبة أنه أسِرَي به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وروى عنه يونس عن عروة عن عائشة قالت: تُوفِّيت خديجة قبل أن تُفرض الصلاة. قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبعة أعوام. وروى عنه الوَقّاصيّ قال: أسْرِيَ به بعد مبعثه بخمس سنين. قال ابن شهاب: وفُرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحُرمت الخمر بعد أُحُد. وقال ابن إسحاق: أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة في القبائل. وروى عنه يونس بن بكير قال: صلّت خديجة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. وسيأتي. قال أبو عمر: وهذا يدلك على أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بثلاث وقيل بأربع. وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه كما تقدّم. وقال الحَرْبِيّ: أسري به ليلة سبع وعشرين من (شهر) ربيع الآخرة قبل الهجرة بسنة. وقال أبو بكر محمد بن عليّ بن القاسم الذهبي في تاريخه: أسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهراً. قال أبو عمر: لا أعلم أحداً من أهل السير قال ما حكاه الذهبي، ولم يُسْنِد قوله إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم.

المسألة الثالثة: وأما فرض الصلاة وهيئتها حين فرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السِّيَر أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الإسراء حين عُرج به إلى السماء، وذلك منصوص في الصحيح وغيره. وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت؛ فروي عن عائشة رضي الله عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعاً، وأَقرّتِ صلاة السفر على ركعتين. وبذلك قال الشَّعْبِيّ وميمون بن مِهْران ومحمد بن إسحاق. قال الشعبيّ: إلا المغرب. قال يونس بن بكير: وقال ابن إسحاق ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم حين فرضت عليه الصلاة يعني في الإسراء فهمز له بعقِبه في ناحية الوادي فٱنفجرت عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر عليهما السلام فوَضّأ وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلي ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء. وروي عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين. وكذلك قال نافع بن جبير والحسن بن أبي الحسن البصري، وهو قول ابن جريج، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يوافق ذلك. ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الإسراء عند الزوال، فعلّم النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها. وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبي المهاجر قال سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أوّل الصلاة مثنى، ثم صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً فصارت سُنّة، وأُقِرّت الصلاة للمسافر وهي تمام. قال أبو عمر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله «فصارت سُنّة» قول منكر، وكذلك استثناء الشعبي المغرب وحدها ولم يذكر الصبح قولٌ لا معنى له. وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب والصبح ولا يعرفون غير ذلك عملاً ونقلاً مستفيضاً، ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها.

الخامسة: قد مضى الكلام في الأذان في «المائدة» والحمد لله. ومضى في «آل عمران» أن أوّل مسجد وُضع في الأرض المسجدُ الحرام، ثم المسجد الأقصى. وأن بينهما أربعين عاماً من حديث أبي ذَرّ، وبناء سليمان عليه السلام المسجد الأقصى ودعاؤه له من حديث عبد الله بن عمرو ووجه الجمع في ذلك؛ فتأمله هناك فلا معنى للإعادة. ونذكر هنا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُشَدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس" . خرّجه مالك من حديث أبي هريرة. وفيه ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد؛ لهذا قال العلماء: من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل، ويصلّي في مسجده، إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر صلاة فيها خرج إليها. وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رِباطاً في ثَغْر يسدّه: فإنه يلزمه الوفاء حيث كان الرباط لأنه طاعة لله عز وجل. وقد زاد أبو البَخْتَرِيّ في هذا الحديث مسجد الجند، ولا يصح وهو موضوع، وقد تقدّم في مقدّمة الكتاب.

السادسة: قوله تعالى: { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } سُمِّيَ الأقصَى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظَّم بالزيارة، ثم قال: { ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } قيل: بالثمار وبمجاري الأنهار. وقيل: بمن دُفن حوله من الأنبياء والصالحين؛ وبهذا جعله مقدّسا. وروى معاذ بن جبل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى يا شام أنت صفْوَتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي" أصله سام فَعُرِّبَ. { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } هذا من باب تلوين الخطاب. والآيات التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الأقصى في ليلة وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحداً واحداً، حسبما ثبت في صحيح مسلم وغيره. { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } تقدّم.