التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً
١٩
إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٢٠
-الكهف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } البعث: التحريك عن سكون. والمعنى: كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلّبناهم بعثناهم أيضاً؛ أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليه من هيئاتهم في ثيابهم وأحوالهم. قال الشاعر:

وفِتْيَانِ صِدْق قد بَعثْتُ بسُحْرَةٍفقاموا جميعاً بين عاثٍ ونَشْوانِ

أي أيقظت. واللام في قوله «ليتساءلوا» لام الصيرورة وهي لام العاقبة؛ كقوله: { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } فبعْثُهم لم يكن لأجل تساؤلهم.

قوله تعالى: { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وذلك أنهم دخلوه غُدوةً وبعثهم الله في آخر النهار؛ فقال رئيسهم تمليخا أو مكسلمينا: الله أعلم بالمدّة.

قوله تعالى: { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ } فيه سبع مسائل:

الأولى: قال ابن عباس: كانت ورقهم كأخفاف الرُّبع؛ ذكره النحاس. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائيّ وحفص عن عاصم «بورقكم» بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم «بورقكم» بسكون الراء، حذفوا الكسرة لثقلها، وهما لغتان. وقرأ الزجاج «بوِرْقكم» بكسر الواو وسكون الراء. ويروى أنهم انتبهوا جياعاً، وأن المبعوث هو تمليخا، كان أصغرهم؛ فيما ذكر الغزنويّ. والمدينة: أفْسُوس ويقال هي طَرسوس، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس؛ فلما جاء الاسلام سمّوها طرسوس. وقال ابن عباس: كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم.

الثانية: قوله تعالى: { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً } قال ابن عباس: أحلّ ذبيحةً؛ لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم. ابن عباس: كان عامتهم مجوساً. وقيل: «أزكى طعاماً» أي أكثر بركة. قيل: إنهم أمروه أن يشتري ما يُظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يُطلّع عليهم، ثم إذا طبخ كفى جماعة؛ ولهذا قيل ذلك الطعام الأرز. وقيل: كان زبيباً. وقيل تمراً؛ فالله أعلم. وقيل: «أزكى» أطيب. وقيل: أرخص. { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } أي بقُوت. { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي في دخول المدينة وشراء الطعام. { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } أي لا يخبرنّ. وقيل: إن ظُهر عليه فلا يوقعنّ إخوانه فيما وقع فيه. { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } قال الزجاج: معناه بالحجارة، وهو أخبث القتل. وقيل: يرموكم بالسب والشتم؛ والأوّل أصح، لأنه كان عازماً على قتلهم كما تقدّم في قصصهم. والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله (عقوبة) مخالفة دين الناس إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدِّين من حيث إنهم يشتركون فيها.

الثالثة: في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها. وقد وكّل عليّ بن أبي طالب أخاه عقيلاً عند عثمان رضي الله عنهما؛ ولا خلاف فيها في الجملة. والوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام؛ ألا ترى إلى عبد الرحمن بن عوف كيف وكّل أميّة بن خلف بأهله وحاشيته بمكة؛ أي يحفظهم، وأمية مشرك، والتزم عبد الرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاةً لصنعه. روى البخاريّ عن عبد الرحمن بن عوف قال: كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة؛ فلما ذكرت الرحمن؛ قال: لا أعرف الرحمن! كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته عبد عمرو... وذكر الحديث. قال الأصمعي: صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه؛ وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغَى إذا مال، وكلّ مائل إلى الشيء أو معه فقد صغا إليه وأصغى؛ من كتاب الأفعال.

الرابعة: الوكالة عقدُ نيابةٍ، أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو بترفّه فيستنيب من يريحه.

وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب، منها هذه الآية، وقوله تعالى: { وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } [التوبة: 60] وقوله: { اذهبوا بقميصي هذا } [يوسف: 93]. وأما من السنة فأحاديث كثيرة؛ منها حديث عروة البارقيّ، وقد تقدّم في آخر الأنعام. "روى جابر بن عبد الله قال: أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر؛ فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وَسْقاً فإن ابتغى منك آيةً فضع يدك على تَرْقُوته" خرجه أبو داود. والأحاديث كثيرة في المعنى، وفي إجماع الأمة على جوازها كفاية.

الخامسة: الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه، فلو وكل الغاصبُ لم يجز، وكان هو الوكيل؛ لأن كل محرَّم فعله لا تجوز النيابة فيه.

السادسة: في هذه الآية نكتة بديعة، وهي أن الوكالة إنما كانت مع التَّقِيّة خوف أن يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم. وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه؛ فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها. وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز. قال ابن العربي: وكأن سحنون تلقّفه من أسد بن الفُرات فحكم به أيام قضائه، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت؛ إنصافاً منهم وإذلالاً لهم، وهو الحق؛ فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل.

قلت: هذا حسن؛ فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكّلوا وإن كانوا حاضرين أصحّاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرّجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال: "كان لرجل على النبيّ صلى الله عليه وسلم سِنّ من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه فطلبوا له سِنّه فلم يجدوا إلا سِنًّا فوقها؛ فقال: أعطوه فقال: أوفَيْتَني أوْفَى الله لك. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن خيركم أحسنُكم قضاء" . لفظ البخاري. فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السنّ التي كانت عليه؛ وذلك توكيل منه لهم على ذلك، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم مريضاً ولا مسافراً. وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما: إنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه؛ وهذا الحديث خلاف قولهما.

السابعة: قال ابن خُوَيْزِ منداد: تضمنت هذه الآية جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم. وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكّلوه بالشراء. وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلاً من الآخر؛ ومثله قوله تعالى: { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } حسبما تقدم بيانه في «البقرة». ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدّق عليه فيخلطه بطعام لغنيّ ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد قالوا في المضارب يخلط طعامه بطعام غيره ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكّل من اشترى له أضحية. قال ابن العربي: ليس في الآية دليل على ذلك؛ لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفرداً فلا يكون فيه اشتراك. ولا معوَّل في هذه المسألة إلا على حديثين:

أحدهما: أن ابن عمر مرّ بقوم يأكلون تمراً فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه.

الثانية: حديث أبي عبيدة في جيش الخبط. وهذا دون الأول في الظهور؛ لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافاً من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه.

قلت: ومما يدل على خلاف هذا من الكتاب قوله تعالى: { { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [البقرة: 220] وقوله { { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } [النور: 16] على ما يأتي إن شاء الله تعالى.