التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً
٢١
-الكهف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم. و «أعثر» تعدية عثر بالهمزة، وأصل العثار في القدم. { لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } يعني الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم. وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجلٌ صالح، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا: إنما تحشر الأرواح والجسد تأكله الأرض. وقال بعضهم: تبعث الروح والجسد جميعاً؛ فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يتبيّن أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرمّاد وتضرّع إلى الله تعالى في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف؛ فيقال: إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه لبعد العهد، فحمل إلى الملك وكان صالحاً قد آمن وآمن من معه، فلما نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم، وسأل الفتى فأخبره؛ فسرّ الملك بذلك قال: لعل الله قد بعث لكم آية، فلنسر إلى الكهف معه، فركب مع أهل المدينة إليهم، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليخا: أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الأمر وأن الأمة أمة إسلام، فروي أنهم سرّوا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظّموه وعظّمهم ثم رجعوا إلى كهفهم. وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حين حدّثهم تمليخا ميتة الحق، على ما يأتي. ورجع من كان شكّ في بعث الأجساد إلى اليقين. فهذا معنى «أعثرنا عليهم». «ليعلموا أن وعد الله حق» أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق «إذ يتنازعون بينهم أمرهم». وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم فقال الملك: ابنوا عليهم بنيانا؛ فقال الذين هم على دين الفتية: اتخذوا عليهم مسجداً. وروي أن طائفة كافرة قالت: نبني بيعة أو مضيفاً، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجداً. وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيّبين. وروي عن عبد لله بن عمر أن الله تعالى أعمى على الناس حينئذٍ أثرهم وحجبهم عنهم، فلذلك دعا الملك إلى بناء البنيان ليكون مَعْلَماً لهم. وقيل: إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آتٍ منهم في المنام فقال: أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل؛ فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود، فدعنا.

وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة؛ فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمّنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز؛ لما روى أبو داود والترمذيّ عن ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج" . قال الترمذيّ: وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن. وروى الصحيحان عن عائشة: "أن أم حبيبة وأمّ سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوّروا فيه تلك الصور أولئك شرارُ الخلق عند الله تعالى يوم القيامة" . لفظ مسلم. قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتّخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد. وروى الأئمة عن أبي مرثد الغنويّ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلّوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" لفظ مسلم. أي لا تتخذوها قبلة فتصلّوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى، فيؤدي إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام. فحذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وسَدَّ الذرائع المؤدّية إلى ذلك فقال: "اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" . وروى الصحيحان عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طَفِق يطرح خَميصة له على وجهه فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذّر ما صنعوا. وروى مسلم عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصّص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه" . وخرّجه أبو داود والترمذي أيضاً عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصّص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ" . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى الصحيح عن أبي الهيّاج الأسدي قال: قال لي عليّ بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألاّ تَدَعَ تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مُشرفاً إلا سوّيته ـ في رواية ـ ولا صورة إلا طمستها. وأخرجه أبو داود والترمذيّ. قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة. وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما ـ على ما ذكر مالك في الموطأ ـ وقبر أبينا آدم صلى الله عليه وسلم؛ على ما رواه الدارقطنيّ من حديث ابن عباس. وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيماً وتعظيماً فذلك يهدم ويزال؛ فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبُّهاً بمن كان يعظّم القبور ويعبدها. وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي ينبغي أن يقال: هو حرام. والتسنيم في القبر: ارتفاعه قدر شبر؛ مأخوذ من سنام البعير. ويُرَشّ عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح. وقال الشافعيّ لا بأس أن يطيّن القبر. وقال أبو حنيفة: لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط. ولا بأس بوضع الأحجار لتكون علامة؛ لما رواه أبو بكر الأثرم قال: حدّثنا مسدّد حدّثنا نوح بن دُرّاج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلّمته بصخرة؛ ذكره أبو عمر.

وأما الجائزة: فالدفن في التابوت؛ وهو جائز لا سيما في الأرض الرّخْوة. وروي أن دانيال صلوات الله عليه كان في تابوت من حجر، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقي في ركيّة مخافة أن يعبد، وبقي كذلك إلى زمان موسى صلوات الله عليهم أجمعين؛ فدلّته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق عليه السلام. وفي الصحيح عن سعد بن أبي وقّاص: أنه قال في مرضه الذي هلك فيه: اتخذوا لي لَحْداً وانصبوا عليّ اللّبن نَصْباً؛ كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. اللحد: هو أن يشقّ في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسدّ عليه باللّبن. وهو أفضل عندنا من الشق؛ لأنه الذي اختاره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم. وبه قال أبو حنيفة قال: السنة اللحد. وقال الشافعي: الشق. ويكره الآجر في اللحد. وقال الشافعي: لا بأس به لأنه نوع من الحجر. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه؛ لأن الآجر لإحكام البناء، والقبر وما فيه للبلى، فلا يليق به الإحكام. وعلى هذا يسوّى بين الحجر والآجر. وقيل: إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلاً؛ فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر. قالوا: ويستحب اللّبن والقَصَب لما روي أنه وضع على قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم حزمة من قصب. وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل الحنفيّرحمه الله أنه جوّز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الأرض. وقال: لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به؛ لكن ينبغي أن يفرش فيه التراب وتطيّن الطبقة العليا مما يلي الميت، ويجعل اللّبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد.

قلت: ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإن المدينة سبخة، قال شُقْران: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر: قال أبو عيسى الترمذي: حديث شقران حديث حسن صحيح غريب.