التفاسير

< >
عرض

وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً
٣٩
فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً
٤٠
أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً
٤١
-الكهف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } فِيهِ مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر وردّ عليه، إذ قال «مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هٰذِه أبَداً» و «ما» في موضع رفع، تقديره: هذه الجنة هي ما شاء الله. وقال الزجاج والفراء: الأمر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله؛ أي الأمر مشيئة الله تعالى. وقيل: الجواب مضمر، أي ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون. { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع.

الثانية ـ قال أشهب قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا. وقال ابن وهب قال لي حفص بن مَيْسرة: رأيت على باب وهب بن منبِّه مكتوباً «ما شاء الله لا قوّة إلا بالله». وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة: "ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة ـ أو قال كنز من كنوز الجنة" قلت: بلى يا رسول الله، قال "لا حول ولا قوّة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم" أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى. وفيه: فقال: "يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ألا أدُلُّك على كلمة من كنز الجنة ـ في رواية على كنز من كنوز الجنة ـ قلت: ما هي يا رسول الله، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وعنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة قلت: بلى؛ فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم" . وروي أنه من دخل منزله أو خرج منه فقال: بٱسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات. وقالت عائشة: إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال المَلَك هُديت، وإذا قال: ما شاء الله قال المَلك: كُفِيت، وإذا قال: لا قوة إلا بالله قال المَلك وُقيت. خرجه الترمذيّ من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كُفِيت ووُقِيت وتنّحى عنه الشيطان" هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضاً وزاد فيه ـ فقال له: "هُدِيت وكُفيت ووُقيت" . وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه مَلَكان موكَّلان به فإذا قال باسم الله قالا هُديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقُيت وإذا قال توكّلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قَريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هُدِيَ ووُقِي وكُفِي" . وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تحاجّت الجنة والنار فقالت هذه ـ يعني الجنة ـ يدخلني الضعفاء" من الضعيف؟ قال: الذي يبرىء نفسه من الحول والقوّة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة. وقال أنس بن مالك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من رأى شيئاً فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين" . وقد قال قوم: ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رَضِيَ به. وروي أن من قال أربعاً أمِنَ من أربع: من قال هذه أمِن من العين، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان، ومن قال وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.

قوله تعالى: { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } «إنْ» شرط «تَرَنِ» مجزوم به، والجواب «فعسى رَبِّي» و «أنا» فاصلة لا موضع لها من الإعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيداً للنون والياء. وقرأ عيسى بن عمر «إن ترنِ أنا أقلُ منك» بالرفع؛ يجعل «أنا» مبتدأ و «أقل» خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الأول النون والياء؛ إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيّد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و { فعسَىٰ } بمعنى لعل، أي فلعلّ ربي. { أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا } أي على جنتك. { حُسْبَاناً } أي مرامي من السماء، واحدها حُسْبانة؛ قاله الأخفش والقُتَبِيّ وأبو عبيدة. وقال ابن الأعرابي: والحسبانة السحابة، والحسبانة الوِسادة، والحسبانة الصَّاعقة. وقال الجوهري: والحسبان (بالضم): العذاب. وقال أبو زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضاً الحساب، قال الله تعالى: { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } }. [الرحمن: 5] وقد فُسِّر الحُسْبان هنا بهذا. قال الزجاج: الحسبان من الحساب؛ أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك؛ فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضاً: سهام قصار يرمى بها في طَلْق واحد، وكان من رَمْي الأكاسرة. والمرامي من السماء عذاب. { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } يعني أرضاً بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهي أضَرّ أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض؛ و «زلقا» تأكيد لوصف الصعيد؛ أي تزل عنها الأقدام لملاستها. يقال: مكان زَلَق (بالتحريك) أي دَحْض، وهو في الأصل مصدر قولك: زلِقت رجله تَزلْقَ زَلَقا، وأزلقها غيره. والزلق أيضاً عجز الدابة. قال رُؤْبة:

كأنها حَقْباءُ بُلْقاء الزَّلَق

والمَزْلْقَة والمُزْلقة: الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزَّلاّقة. والزَّلْق الحَلْق، زَلَق رأسَه يَزْلِقُه زَلْقا حلقه؛ قاله الجوهري. والزَّلَق المحلوق، كالنَّقْض والنَّقَض. وليس المراد أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حُلق لا يبقى عليه شعر؛ قاله القشَيْرِيّ. { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً } أي غائراً ذاهباً، فتكون أعدمَ أرض للماء بعد أن كانت أوجدَ أرض للماء. والغَوْر مصدر وضع موضع الاسم؛ كما يقال: رجلٌ صَوْمٌ وفِطْرٌ وعَدْلٌ ورِضاً وفَضْلٌ وزَوْرٌ ونساءٌ نوحٌ؛ ويستوى فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كُلثوم:

تظَلّ جياده نَوْحاً عليهمقلَّدة أعنّتها صُفُونا

وقال آخر:

هَرِيقي من دموعهما سجاماضُباع وجاوبي نوحاً قياماً

أي نائحات. وقيل: أو يصبح ماؤها ذا غَوْر؛ فحذف المضاف؛ مثلُ { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] ذكره النحاس. وقال الكسائي: ماءٌ غَوْرٌ. وقد غار الماء يَغُور غَوْراً وغُوُوراً، أي سفَل في الأرض، ويجوز الهمز لانضمام الواو. وغارت عينه تَغُور غَوْراً وغُؤُوراً؛ دخلت في الرأس. وغارت تَغار لغة فيه. وقال:

أغارتْ عينهُ أم لم تَغَارَا

وغارت الشمس تغور غِيارا، أي غربت. قال أبو ذُؤيب:

هل الدهر إلاّ ليلة ونهارُهاوإلا طلوعُ الشمس ثم غيارها

{ فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } أي لن تستطيع ردّ الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة. وقيل: فلن تستطيع طلب غيره بدلاً منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.