التفاسير

< >
عرض

فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً
٧٤
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
٧٥
قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَٰحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً
٧٦
-الكهف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ } في البخاري قال يَعْلَى قال سعيد: وجد غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً كافراً فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } لم تعمل بالحِنْثِ. وفي الصحيحين وصحيح الترمذي: ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، قال له موسى: { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } قال: وهذه أشد من الأولى. { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً }. لفظ البخاري: وفي «التفسير»: إن الخضر مرّ بغلمان يلعبون فأخذ بيده غلاماً ليس فيهم أضوأ منه، وأخذ حجراً فضرب به رأسه حتى دَمَغه، فقتله. قال أبو العالية: لم يره إلا موسى، ولو رأوه لحالوا بينه وبين الغلام.

قلت: ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة، فإنه يحتمل أن يكون دَمَغه أوّلاً بالحجر، ثم أضجعه فذبحه، ثم اقتلع رأسه؛ والله أعلم بما كان من ذلك؛ وحسبك بما جاء في الصحيح. وقرأ الجمهور: «زَاكِيَةً» بالألف. وقرأ الكوفيون وابن عامر «زَكِيَّةً» بغير ألف وتشديد الياء؛ قيل: المعنى واحد؛ قاله الكسائي. وقال ثعلب: الزكية أبلغ. قال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب قط، والزكية التي أذنبت ثم تابت.

قوله تعالى: «غلاماً» اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغاً أم لا؟ فقال الكلبي: كان بالغاً يقطع الطريق بين قريتين، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين، وأمه من عظماء القرية الأخرى، فأخذه الخضر فصرعه، ونزع رأسه عن جسده. قال الكلبي: واسم الغلام شمعون. وقال الضحاك: حيْسون. وقال وهب: اسم أبيه سلاس واسم أمه رُحْمَى. وحكى السهيليّ أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوى. وقال الجمهور: لم يكن بالغاً؛ ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب. وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام؛ فإن الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، وتقابله الجارية في النساء. وكان الخضر قتله لِما علم من سِرّه، وأنه طُبع كافراً كما في صحيح الحديث، وأنه لو أدرك لأرهق أبويه كفراً. وقتلُ الصغير غير مستحيل إذا أذن الله في ذلك؛ فإن الله تعالى الفعّال لما يريد، القادر على ما يشاء. وفي كتاب «العرائس» إن موسى لما قال للخضر: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً» ـ الآية ـ غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب: كافر لا يؤمن بالله أبداً. وقد احتج أهل القول الأوّل بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية:

شَفَاها من الدَّاءِ العُضالِ الذِي بِهاغُلام إذا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا

وقال صفوان لحسان:

تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيفِ عَنِّي فإنَّنيغُلاَمٌ إذا هُوجِيتُ لَسْتُ بشاعِر

وفي الخبر: إن هذا الغلام كان يفسد في الأرض، ويقسم لأَبويه أنه ما فعل، فيقسمان على قسمه، ويحميانه ممن يطلبه، قالوا وقوله: «بِغَيْرِ نَفْسٍ» يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدل على كبرَ الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، وإنما جاز قتله لأنه كان بالغاً عاصياً. قال ابن عباس: كان شاباً يقطع الطريق. وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سنّ التكليف لقراءة أبيّ وابن عباس «وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين» والكفر والإيمان من صفات المكلَّفين، ولا يطلق على غير مكلَّف إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعين أن يصار إليه. والغلام من الاغتلام وهو شدة الشَّبَق.

قوله تعالى: { نُّكْراً } اختلف الناس أيهما أبلغ «إمراً» أو قوله «نكراً» فقالت فرقة: هذا قَتلٌ بيِّن، وهناك مُترقَّب؛ فـ«ـنكرا» أبلغ، وقالت فرقة: هذا قَتلُ واحدٍ وذاك قتلُ جماعة فـ«إمرا» أبلغ. قال ابن عطية: وعندي أنهما لمعنيين وقوله: «إِمراً» أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم، و«نُكْراً» بيّن في الفساد لأن مكروهه قد وقع؛ وهذا بيّن. قوله: { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } شرط وهو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحقّ الشروط أن يُوفَّى به ما التزمه الأنبياء، والتُزِم للأنبياء. وقوله: { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقاً، وقيامِ الحجة من المرة الثانية بالقطع؛ قاله ابن العربي. ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضاً أصلاً للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام المتلوّم ثلاثة؛ فتأمله.

قوله تعالى: { فَلاَ تُصَاحِبْنِي } كذا قرأ الجمهور؛ أي تتابعني. وقرأ الأعرج «تَصْحَبَنِّي» بفتح التاء والباء وتشديد النون. وقرىء «تَصْحَبْنِي» أي تتبعني. وقرأ يعقوب «تُصْحِبْنِي» بضم التاء وكسر الحاء؛ ورواها سهل عن أبي عمرو؛ قال الكسائي: معناه فلا تتركني أصحبك. { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } أي بلغت مبلغاً تُعذر به في ترك مصاحبتي. وقرأ الجمهور: «مِنْ لَدُنِّي» بضم الدال، إلا أن نافعاً وعاصماً خفّفا النون، فهي «لدن» اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكُسر ما قبل الياء كما كُسر في هذه. وقرأ أبو بكر عن عاصم «لَدْنِي» بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون. وروي عن عاصم «لُدْنِي» بضم اللام وسكون الدال؛ قال ابن مجاهد: وهي غلط؛ قال أبو علي: هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فهي صحيحة. وقرأ الجمهور «عُذْراً». وقرأ عيسى «عُذُراً» بضم الذال. وحكى الداني أن أبيًّا روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «عُذْرِي» بكسر الراء وياء بعدها.

مسألة: أسند الطبريّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه، فقال يوماً: "رحمة الله علينا وعلى موسى لو صَبَر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال: { فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً }" . والذي في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عَجَّل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذَمَامة ولو صَبَر لرأى العجب" قال: وكان إذا ذَكَر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه: رحمة الله علينا وعلى أخي كذا. وفي البخاري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله موسى لودِدْنَا أنه صَبَر حتى يقص علينا من أمرهما" . الذَّمامة بالذال المعجمة المفتوحة، وهو بمعنى المَذَمَّة بفتح الذال وكسرها، وهي الرقة والعار من تلك الحرمة: يقال أخذتني منك مَذَمَّة ومَذِمَّة وذَمَامة. وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.