التفاسير

< >
عرض

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً
٢٧
يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
٢٨
-مريم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى:{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } روي أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه. قال ابن عباس: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار. وقال الكلبي: ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوماً للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا منكِرين: { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشي يفتريه. قال مجاهد: «فريا» عظيماً. وقال سعيد بن مسعدة: أي مختلقاً مفتعلاً؛ يقال: فريت وأفريت بمعنى واحد. والولد من الزنى كالشيء المفترى. قال الله تعالى: { { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [الممتحنة: 12] أي بولد يقصد إلحاقه بالزوج وليس منه. يقال: فلان يفرِي الفرِيّ أي يعمل العمل البالغ، وقال أبو عبيدة: الفريّ العجيب النادر؛ وقاله الأخفش. قال: فرياً عجيباً. والفَرْي القطع كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع القول بكونه عجيباً نادراً. وقال قطرب: الفري الجديد من الأسقية؛ أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه. وقرأ أبو حيوة: «شَيْئاً فَرْياً» بسكون الراء. وقال السدي ووهب بن منبه: لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل، فاجتمع رجالهم ونساؤهم، فمدّت امرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحمُلت كذلك. وقال آخر: ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى؛ فتحامى الناس من أن يضربوها، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون؛ فقالوا: «يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً» أي عظيماً؛ قال الراجز:

قد أَطعَمتْنِي دَقَلاً حَوْلِيَّامُسوِّساً مُدَوِّداً حَجْرِيَّا
قـد كـنـتِ تَـفْـرِيـن بِـهِ الـفـرِيَّـا

أي (تعظمينه).

قوله تعالى: { يٰأُخْتَ هَارُونَ } اختلف الناس في معنى هذه الأخوة، ومن هارون؟ فقيل: هو هارون أخو موسى؛ والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا. قيل: على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى فنسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده؛ كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللعربي يا أخا العرب. وقيل: كان لها أخ من أبيها اسمه هارون؛ لأن هذا الاسم كان كثيراً في بني إسرائيل تبركاً باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل؛ قاله الكلبي. وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم اسمه هارون. وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبلُ؛ إذ كانت موقوفة على خدمة البيع؛ أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلاً لذلك. وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن مريم ليست بأخت هارون أخي موسى؛ فقالت له عائشة: كذبت. فقال لها: يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فهو أصدق وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما من المدّة ستمائة سنة. قال: فسكتت. وفي صحيح مسلم "عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمتُ نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون يا أخت هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: إنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم" . وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن النصارى قالوا له: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون وبينهما في المدّة ستمائة سنة؟! قال المغيرة: فلم أدر ما أقول؛ وذكر الحديث. والمعنى أنه اسم وافق اسماً. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء؛ والله أعلم.

قلت: فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى وهارون زمان مديد. قال الزمخشري: كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهارون؛ وإن صح فكما قال السدي لأنها كانت من نسله؛ وهذا كما تقول للرجل من قبيلة: يا أخا فلان. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "إن أخا صُدَاء قد أذَّن فمن أذَّنَ فهو يُقيم" وهذا هو القول الأوّل. ابن عطية: وقالت فرقة بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ؛ ذكره الطبري ولم يسمّ قائله.

قلت: ذكره الغزنوي عن سعيد بن جبير أنه كان فاسقاً مَثَلاً في الفجور فنسبت إليه. والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلاً لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟! وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح. وذلك يوجب عندنا الحدّ وسيأتي في سورة «النور» القول فيه إن شاء الله تعالى. وهذا القول الأخير يردّه الحديث الصحيح، وهو نص صريح فلا كلام لأحد معه، ولا غبار عليه. والحمد لله. وقرأ عمر بن لجأ التَّيْميّ «مَا كَانَ أَبَاكِ امْرُأُ سَوْءٍ».