التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ
٣٤
مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٣٥
وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٣٦
فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
٣٧
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٨
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٣٩
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
٤٠
-مريم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } أي ذلك الذي ذكرناه عيسى ابن مريم فكذلك اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة، وأنه ابن يوسف النجار، ولا كما قالت النصارى: إنه الإلٰه أو ابن الإلٰه. { قَوْلُ ٱلْحَقِّ } قال الكسائي: «قَوْلُ الْحَقِّ» نعت لعيسى؛ أي ذلك عيسى ابن مريم (قَوْلُ الحَقِّ). وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله؛ والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. قال ابن عباس: يريد هذا كلام عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم قول الحق ليس بباطل؛ وأضيف القول إلى الحق كما قال: { { وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } [الأحقاف: 16] أي الوعد الصدق. وقال: { { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } [يوسف: 109] أي ولا الدار الآخرة. وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر «قَوْلَ الْحَقِّ» بالنصب على الحال؛ أي أقول قولاً حقاً. والعامل معنى الإشارة في «ذلك». الزجاج: هو مصدر أي أقول قول الحق؛ لأن ما قبله يدل عليه. وقيل: مدح. وقيل: إغراء. وقرأ عبد الله «قَالُ الحقِّ». وقرأ الحسن «قُولُ الحقِّ» بضم القاف، وكذلك في «الأنعام» «قَوْلُهُ الْحَقُّ». والقَوْلُ والقَالُ والقُولُ بمعنى واحد، كالرَّهْب والرَّهَب والرُّهْبِ. { ٱلَّذِي } من نعت عيسى. { فِيهِ يَمْتُرُونَ } أي يشكون؛ أي ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون القول الحق. وقيل: «يمترون» يختلفون. ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: { ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ } قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع؛ فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية. فقالت الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النّسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إلٰه وهو إلٰه، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. قال الرابع: كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع ـ على ما قال ـ فاقتتلوا فظُهِر على المسلمين، فذلك قول الله تعالى: { { وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ } [آل عمران: 21]. وقال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً فهذا معنى قوله: «الذي فيه تمترون» بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبد الرحمن السُّلَمي وغيره. قال ابن عباس: فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه؛ ذكره الماوردي.

قلت: ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل؛ الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكاً، وأن الله تعالى أوحى إلى يوسف النجار في الحلم وقال له: قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه، فقام من نومه: وامتثل أمر ربه، وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البَلَسان التي بظاهر القاهرة، وغسلت ثيابه على ذلك البئر، فالبَلَسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض، ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمّد به النصارى، ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعاً جليلاً جداً، وتكون أحبّ إليهم من كل هدية لها قدر. وفي تلك السّفْرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة، فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن، ويحضرون إليها في عيد الفصح من كل مكان؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر، ومنها عاد إلى الشام. والله أعلم.

قوله تعالى: { مَا كَانَ للَّهِ } أي ما ينبغي له ولا يجوز { أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } «من» صلة للكلام؛ أي أن يتخذ ولداً. و«أن» في موضع رفع اسم «كان» أي ما كان لله أن يتخذ ولداً؛ أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال: { سُبْحَانَهُ } أن يكون له ولد. { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } تقدم في «البقرة» مستوفى. { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ } قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح «أن» وأهل الكوفة «وإن» بكسر الهمزة على أنه مستأنف. تدل عليه قراءة أبيّ «كُنْ فَيَكُونُ. إنَّ الله» بغير واو على العطف على «قَالَ إنِّي عَبْدُ اللَّهِ». وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى؛ ولأن الله ربي وربكم، وكذا «وأنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ» فـ«ـأن» في موضع نصب عندهما. وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أن يكون أيضاً في موضع خفض بمعنى؛ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبأن الله ربي وربكم. وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى؛ والأمر أن الله ربي وربكم. وفيها قول خامس: حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى: وقضى أن الله ربي وربكم؛ فهي معطوفة على قوله: «أمراً» من قوله: «إِذَا قَضَى أَمْراً» والمعنى إذا قضى أمراً وقضى أن الله. ولا يبتدأ بـ«ـأن» على هذا التقدير، ولا على التقدير الثالث. ويجوز الابتداء بها على الأوجه الباقية. { فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي دين قويم لا اعوجاج فيه.

قوله تعالى: { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } «من» زائدة؛ أي اختلف الأحزاب بينهم. وقال قتادة: أي ما بينهم. فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام فاليهود بالقدح والسحر. والنصارى قالت النسطورية منهم: هو ابن الله. والملكانية ثالث ثلاثة. وقالت اليعقوبية: هو الله؛ فأفرطت النصارى وغلت، وفرطت اليهود وقصرت. وقد تقدّم هذا في «النساء». وقال ابن عباس: المراد بالأحزاب الذين تحزبوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. { فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي من شهود يوم القيامة، والمشهد بمعنى المصدر، والشهود الحضور. ويجوز أن يكون الحضور لهم، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما يقال: ويل لفلان من قتال يوم كذا؛ أي من حضوره ذلك اليوم. وقيل: المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق. وقيل: فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور، فأجمعوا على الكفر بالله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.

قوله تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب؛ فتقول: أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره. قال: فمعناه أنه عَجَّب نبيه منهم. قال الكلبي: لا أحد أسمع منهم يوم القيامة ولا أبصر، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى: { { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [المائدة: 116]. وقيل: «أسمع» بمعنى الطاعة؛ أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم. { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ } يعني في الدنيا. { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وأيّ ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الأرحام، وأكل وشرب، وأحدث واحتاج أنه إلٰه؟! ومن هذا وصفه فهو أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذاب، ولكنه لا ينفعه ذلك؛ قال معناه قتادة وغيره.

قوله تعالى: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه. وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله. { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } أي فُرِغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أَمْلَح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت ـ قال ـ ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت ـ قال ـ فيؤمر به فيذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ـ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }" خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح. وقد ذكرنا ذلك في كتاب «التذكرة» وبينا هناك أن الكفار مخلّدون بهذه الأحاديث والآي رداً على من قال: إن صفة الغضب تنقطع، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة.

قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } أي نميت سكانها فنرثها. { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } يوم القيامة فنجازي كلاًّ بعمله، وقد تقدّم هذا في «الحجر» وغيرها.